تأليف أ . د / ناصر بن عبد الكريم العقل - ص 4 - بسم الله الرحمن الرحيم - ص 5 - مقدمة
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله ، ورضي الله عن صحابته الكرام ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بفضلك اللهم . وبعـــد : فقد ثبت في الخبر الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين ، على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي وعد الله وهم كذلك وبين أنهم يقاتل آخرهم الدجال وينزل فيهم عيسى ابن مريم - عليه السلام - عند قيام الساعة . وعلم يقينا أن هذه الطائفة هم من كان على منهاج النبوة ، فعمل بالسنة ولزم الجماعة وسار على نهج السلف الصالح ، وأن هذه الطائفة ( أهل السنة والجماعة ) لا يحصرهم زمان ولا مكان ، لكنهم قد يكثرون في زمان ويقلون في آخر ، وقد يكثرون في مكان ويقلون في آخر كذلك . والمتأمل لحال المسلمين في القرون الأخيرة يجد أن أبرز أنموذج لهذه المسيرة الخيرة هي تلكم الدعوة الإصلاحية المباركة ، ودعوة التوحيد والسنة ، التي قام بها الإمام المجدد ( محمد بن عبد الوهاب ت 1206هـ ) ، وأيدها الأمير الصالح ( محمد بن سعود ت 1179هـ ) ( رحمهما الله ) التي ظهرت في منتصف القرن الثاني عشر الهجري في قلب نجد ، ثم سائر جزيرة العرب ، ثم امتدت آثارها الطيبة إلى كل أقطار العالم الإسلامي ، بل إلى كل أرجاء المعمورة . ولا تزال بحمد الله كذلك . وقد لوحظ ، لا سيما مع الأحداث الأخيرة ، حروب الخليج ، وسقوط الاتحاد السوفييتي وأحداث ( 11 سبتمبر ) بأمريكا وما أعقبه من تداعيات ، لوحظ بصورة ملفتة ومريبة انبعاث كثير من المفتريات والأوهام والأساطير حول ما يسمونه : ( الوهابية ) . - ص 6 - وشاعت هذه المفتريات وهذه الأكاذيب حول الدعوة وأتباعها وعلمائها ودولتها ( الدولة السعودية ) ، وأسهم في ترويجها الحاسدون والمناوئون والكائدون وربما صدقها الجاهلون بحقائق الأمور . وإن الباحث في حقيقة هذه الدعوة ومفتريات خصومها ، وتحفظات بعض ناقديها ، والكم الهائل مما قيل في ذلك وكتب ، وما حشي في أذهان الناس تجاهها من تنفير وتضليل ؛ سيصاب بالذهول والحيرة - لأول وهلة . لكن ما إن يلج المنصف في عمق القضية فسيجد الأمر أيسر وأبين مما يتصوره ، وحين يتجرد من الهوى والعصبية ستنكشف لـه الحقيقة ، وهي : أن هذه الدعوة الإصلاحية الكبرى ، إنما تمثل الإسلام الحق ، ومنهاج النبوة ، وسبيل المؤمنين والسلف الصالح في الجملة . كما سيظهر لـه جليا أن ما يثار حولها وضدها من الشبهات ، إنما هو من قبيل الشائعات والمفتريات ، والأوهام والخيالات ، والبهتان . ومن الزبد الذي يذهب جفاء عند التحاكم إلى القرآن والسنة ، والأصول العلمية المعتبرة ، والنظر العقلي السليم . وما أظن حركة من الحركات الإصلاحية واجهت من التحديات ، والظلم والبهتان ، كما واجهت هذه الدعوة ، ومع ذلك علت وانتصرت وآتت ثمارها الطيبة ( ولا تزال بحمد الله ) في كل مكان . وما ذلك إلا لأنها قامت على ثوابت الدين الحق ( الإسلام ) لكن هذه الحقيقة خفيت على كثير من الناس ، فكان لا بد من تجليتها . لذا فقد لزم الإسهام - في هذا المؤلف - في تجلية الحقيقة ، ورفع الظلم ، ودفع الباطل ورد المفتريات والمزاعم ، بالحجة والبرهان ، واستجلاء الحقيقة من خلال الواقع وشهادة المنصفين . فإنه من الحقائق الثابتة الجلية أن هذه الدعوة الإصلاحية إنما هي امتداد للمنهج الذي كان عليه السلف الصالح أهل السنة والجماعة على امتداد التاريخ الإسلامي ، وهو منهج الإسلام الحق الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام والتابعون وأئمة الدين من الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل الحديث والفقه وغيرهم . - ص 7 - إذن فهذه الحركة المباركة لم تكن إلا معبرة عن الإسلام نفسه ، مستهدفة إحياء ما اعترى تطبيقه من قبل كثير من المسلمين من غشاوة وجهل وإعراض وبدع . وحيث قد اشتهرت عند غير أهلها ، وعند الجاهلين بحقيقتها باسم ( الوهابية ) فإن هذا الوصف انطلق أولا من الخصوم ، وكانوا يطلقونه على سبيل التنفير واللمز والتعيير ، ويزعمون أنه مذهب مبتدع في الإسلام ، أو مذهب خامس . وهذا ظلم .
فهي ليست سوى الإسلام والسنة كما جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وسار عليها السلف الصالح . ولم يكن استعمال هذا الوصف مرضيا ولا شائعا عند أتباعها ، ومع ذلك صار لقب ( الوهابية ) وتسمية الدعوة الإصلاحية السلفية الحديثة به هو السائد لدى الكثيرين من الخصوم وبعض الأتباع والمؤيدين والمحايدين ( تنزلا ) . بل تعدى الأمر إلى التوسع في إطلاق ( الوهابية ) على أشخاص وحركات منحرفة عن المنهج السليم ، وتخالف ما عليه السلف الصالح وما قامت عليه هذه الدعوة المباركة ، وهذا بسبب تراكمات الأكاذيب والأساطير التي نسجت حول الدعوة وأهلها بالباطل والبهتان . إن أتباع هذه الحركة لا يرون صواب هذه التسمية ( الوهابية ) ولا ما انطوت عليه من مغالطات وأوهام ، لاعتبارات مقنعة كثيرة شرعية وعلمية ومنهجية وموضوعية وواقعية ، تتلخص فيما أشرت إليه من أنها تمثل تماما الإسلام الحق الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن سلك سبيل الهدى ، وإذن فحصره تحت مسمى غير الإسلام والسنة خطأ فادح وبدعة محدثة ومردودة . كما ذكرت أن هذه الدعوة وأتباعها ودولتها ( الدولة السعودية في مراحلها الثلاث ) قد واجهت ، ولا تزال تواجه ، تحديات كبرى كلها ترتكز على المفتريات والاتهامات ، والشائعات والأكاذيب والأساطير التي لا تصمد أمام البحث الشرعي العلمي الأصيل والمتجرد . وإن كان الناقدون قد يجدون في تجاوزات بعض المنتسبين للدعوة ما يتذرعون به في نقدها ، لكن عند التحقيق تزول هذه التهم . إذ إن الناظر في المفردات الجزئية لكل دعوة أو مبدأ ، قد يجد فيها الكثير من الأخطاء والتجاوزات والتصرفات الشاذة والأقوال النادة والأحكام الخاطئة ، أو الأمور المشكلة والمشتبهة التي تحتاج إلى تثبت أو تفسير أو تدقيق أو استقراء للوصول إلى حكم علمي تطمئن إليه النفس . - ص 8 - لكن أهل العلم وعقلاء الناس لديهم موازين علمية وعقلية وقواعد شرعية يزنون بها الأمور
ودعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب تخضع لهذه القاعدة ، إذ هي دعوة إسلامية محضة وسلفية خالصة ، تسير على منهج السلف الصالح ، فمرد الخلاف بينها وبين مخالفيها : الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح ، وقد بينت أن ما يتهمها به خصومها من الاتهامات على ثلاثة أنواع : النـوع الأول : من الكذب الصريح والافتراء والبهتان ، وقد ورد ذكر كثير منه في هذا البحث . النـوع الثاني : مما يكون من اللوازم غير اللازمة ، أو التلبيس ، أو التفسير الخاطئ ، ونحو ذلك مما يلتبس فيه الحق بالباطل ويجب رده إلى النصوص والأصول الشرعية والقواعد المعتبرة عند العقلاء ، والمنهج الذي عليه الدعوة . النوع الثالث : أخطاء وتجاوزات وزلات ليست على المنهج الذي عليه الدعوة ، أو اجتهادات خاطئة أو مرجوحة ، وقد تصدر من أي من العلماء أو الولاة أو العامة ، والمنتسبين للدعوة . وكثير من الشبهات والاتهامات التي يتعلق بها الخصوم للطعن في الإمام وأتباعه ودعوته من هذا النوع . وقد عرضت هذا المنهج بشيء من التفصيل في هذا البحث ليكون القاعدة والميزان في تقويم الدعوة ، وبيان مدى الظلم والإجحاف الحاصل لها ولأهلها في الاتهامات التي قيلت وذاعت عند الكثيرين ، بل ومدى البهتان والكذب من قبل بعض الخصوم الذين ظلموا هذه الدعوة ، أو ممن صدقوهم دون تثبت ولا نظر في المنهج والأصول التي عليها المعول في النقد والتقويم ، ودون اعتبار للحال والواقع الذي تعيشه الدعوة وأهلها . وقد واجهت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب - كسائر الدعوات الإصلاحية - صورا عديدة من هذا الابتلاء والمواجهة والحرب الظالمة بجميع أنواعها من خصومها ، وما هذا الصراع إلا حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل إلى قيام الساعة . كما أن الصراع بين الدعوة وبين خصومها إنما كان صراعا عقديا بالدرجة الأولى ، ومظاهر الصراع السياسي وغيره جاءت تباعا ؛ لأن الدعوة أعلنت نشر التوحيد والسنة ، ومحاربة الشركيات والبدع السائدة ، وأعلنت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقامة الحدود ، وتحقيق العدل ورفع الظلم ، والعمل بشرع الله في أمور الحياة ونشر العلم ، ومحاربة الجهل - ص 9 - والدجل والسحر . وهذا يتصادم مع مصالح أهل الأهواء والمنتفعين من شيوع البدع والجهل والتخلف . هذه هي الحقيقة ولا ش
وكل رسائل الدعوة وكتبها وأعمالها وتعاملاتها تدور على هذا الأصل : العودة للإسلام والسنة ، كما هي في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسيرة السلف الصالح ، نقية صافية من شوائب الشركيات والبدع والأهواء والجهالات والطرق والفرق ، والدجل . وهذا منبع الخلاف ومنشأ الصراع . نعم ، لقد واجهت هذه الدعوة المباركة : إمامها وعلماؤها وقادتها ودولتها ، وأتباعها وأنصارها ومؤيدوها حيثما كانوا - ولا تزال تواجه - أصنافا من الخصوم ، وأنواعا من التحديات والمفتريات والدعايات المضادة والخصومات بالباطل . فهي إذن - كأي دعوة وحركة إصلاحية جادة - قد اصطدمت بقوى وتحديات وعقبات كبرى ومكائد عظيمة ، وخصوم أقوياء ، وأعداء أشداء من ديانات وفرق ومذاهب ، ودول وجماعات ، وعلماء ورؤساء وأمراء ، بل وغوغاء وجهلة .
ومع ذلك كله كانت هذه الدعوة - حين قامت على الحق والعدل - تنتصر وتنتشر ، فقد قاوم إمامها وعلماؤها وأتباعها وأمراؤها كل هذه التحديات ، بقوة الإيمان واليقين والعلم والحلم ، والصبر والثبات . وإن الواقع ليشهد أن هذه الدعوة - رغم التحديات الكبيرة - كانت تظهر وتعلو وتؤتي ثمارها الطيبة حتى في فترات ضعف السلطة ، بل وفي البلاد التي لا توجد فيها لها سلطان ولا قوة حين لا تملك إلا قوة الحجة ، وما ذلك إلا لأنها تمثل الإسلام الحق الذي كتب الله لـه البقاء والظهور إلى قيام الساعة ؛ ولأنها تملك عوامل البقاء والثبات ومقومات القوة والنصر ؛ ولأنها تستمد القوة من نصرها لدين الله دين الحق والعدل ، ومن وعد الله تعالى لكل من نصر هذا الدين كما قال تعالى : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [سورة الحج ، من الآية : 40] . ولأنها كانت تخاطب العقول السليمة والفطرة المستقيمة ، والقلوب الواعية المتجردة من الهوى . إن من أقوى الوسائل لفصل النزاع بين المختلفين بعد التحاكم إلى الأصول الشرعية - ص 10 - والبراهين العقلية : شهادات الآخرين ، وقد شهد لهذه الدعوة المباركة ، وإمامها وعلمائها ودولتها وأتباعها كثيرون من أهل العلم والفكر والفضل والإنصاف ، من العلماء والأدباء والمفكرين والساسة والدعاة ، وغيرهم
من المؤيدين ، والمعارضين ، والمحايدين ، من المسلمين وغير المسلمين ، ومن كل بلاد العالم ومنذ نشأة الدعوة إلى يومنا هذا . وإن كل الذين شهدوا لهذه الدعوة وإمامها وعلمائها ودولتها وأتباعها ، كانوا يستندون في شهادتهم لها إلى البراهين والدلائل القاطعة التي لا يمكن أن يتجاوزها المنصف إلا معترفا بها ، ولا ينكرها إلا مكابر . فإن فيما قاله أهلها وكتبوه وفعلوه ، وفي آثار هذه الدعوة الدينية والدنيوية العلمية والعملية ، في العقيدة ، والنظام والسياسية ، وسائر مناحي الحياة ومناشطها ، ما يشهد بالحق ويدحض الشبهات والمزاعم والتخرصات والاتهامات . علما بأن الدعوة ودولتها كانت في مراحلها الأولى لا تملك من وسائل الدعاية والإغراء المادي ما يملكه خصومها كالأتراك وأمراء الأحساء ، وأشراف مكة والبلاد المجاورة ، وغير المجاورة . ولو اقتصرنا في الدفاع عن الدعوة ودولتها على أقوال المحايدين وكثير من الخصوم في إنصافها والدفاع عنها لكان ذلك كافيا في بيان الحقيقة ورد الشبهات ، وإقناع من كان قصده الحق والتجرد من الهوى . أما من كان دافعه الهوى والحسد أو العصبية أو المذهبية أو نحو ذلك من الدوافع الصارفة عن الحق فلا حيلة فيه ، كما قال الله تعالى في هذه الأصناف وأمثالهم من أسلافهم : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين [سورة الأنعام ، الآية : 4 ] . فإذا كانت أحوال الدعوة ، وأقوالها ومؤلفاتها ، ومواقفها ، وشهادات عقلاء الناس تشهد لها فهل بعد هذا البيان من بيان ؟ والشهادات التي شهد بها كثيرون لهذه الدعوة المباركة كانت صادقة وطوعية ، ونابعة من الضمير ، فلم تكن نتيجة إغراءات ولا تضليل إعلامي ، ولا ضغط سياسي ، ولا تهديد ووعيد ( لا رغبة ولا رهبة ) ؛ لأن أتباع الدعوة ورجالها لم يكونوا يملكون شيئا من ذلك ، إلا الحجة والبرهان ( الدليل الشرعي والعقلي ) لكل من ألقى السمع وهو شهيد . ولذلك جاءت - ص 11 - شهادة المنصفين مفعمة بالصدق والشفافية والحماس البريء ، وخالية من أساليب المجاملات وأي من أشكال التكلف أو دوافع الرغبة أو الرهبة .
وكانوا يستندون إلى المنهج الذي قامت عليه وإلى الواقع الذي تعيشه في مجتمعها ، لا سيما من البلاد التي تشملها الدولة السعودية المعاصرة ، التي تميزت بحمد الله بصفاء العقيدة وظهور شعائر الدين ، واختفاء البدع ومظاهرها . - وأنها حققت الغايات التي جاء بها الإسلام : من تعبيد الناس لله وحده لا شريك لـه ، وطاعة الله ، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وإقامة فرائض الدين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد ، وتطبيق الحدود ، وتحكيم الشريعة الإسلامية في كل شؤون الحياة ، وابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة . - وأنها رفعت المظالم والمكوس ، والضرائب التي تثقل كواهل الناس ، وسعت إلى تحقيق العدل والأمن ، بالتحاكم إلى شرع الله ، وتطبيق نظام القضاء بمقتضى الشريعة الإلهية . - وأنها حررت العقول والنفوس من التعلق بغير الله ، من التعلق بالبدع والأوهام ، والدجل والشعوذة ونحو ذلك . - وأنها هي الرائد الأول في أسباب النهضة العلمية والفكرية والأدبية الحديثة في جزيرة العرب وما حولها ، وسائر البلاد العربية والإسلامية . - وأنها تمثل الأنموذج الأسلم لحركات الإصلاح والتحرير الحديثة في العالم الإسلامي ، وأنها تمثل الأنموذج الصحيح في الدعوة ، في العصر الحديث في تحقيق الدين ، وإصلاح الأفراد والمجتمعات ، وتخليص الأمة من البدع والأهواء والفرقة ووسائلها ، والتقليد والعصبية ، والتزام منهج السلف الصالح في الدعوة ووسائله وأهدافه وغاياته . - كما رأى كثير منهم بأن هذه الدعوة بأصولها ومناهجها وتجاربها هي المؤهلة بأن تنهض بالأمة الإسلامية اليوم ، وتعيدها إلى سابق مجدها ، وتجمع شملها على الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح . - وأوضحت أن من أكبر الردود على المفترين على هذه الدعوة وأتباعها ودولتها تلكم الثمار الطيبة والآثار الحسنة للدعوة حين قامت على أسس الدين الحق ، وقواعد الملة الحنيفية واعتمدت على الوحي المعصوم ( كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ) وسلكت سبيل المؤمنين - السلف الصالح أهل السنة والجماعة - فأعلنت راية التوحيد ورسخته في القلوب وأزالت مظاهر الشرك والبدعة ، وحكمت بشرع الله تعالى : شاع بذلك الأمن والعدل والألفة ، وانتشر العلم ، واختفت - ص 12 - مظاهر الظلم والشتات والجهل والبدعة والخرافة . - لقد كانت لهذه الدعوة المباركة آثار عظيمة وكبيرة غيرت معالم التاريخ ، وعدلت مسار الحياة في الأمة الإسلامية كلها في جميع نواحي الحياة : الدينية والعلمية والسياسية والاجتماعية وغيرها . ولم يقتصر أثرها الطيب على جزيرة العرب ( ونجد بخاصة ) ، التي ارتفعت في ربوعها راية التوحيد خفاقة وعلت فيها معالم السنة ، وزالت آثار البدعة والفرقة والجهل ، وساد فيها الأمن والوفاق . بل تجاوز أثرها إلى بقية أقاليم الجزيرة العربية وإلى سائر أقطار المسلمين ، فقام علماء ومصلحون ، وقامت دعوات وحركات تسير على نهج هذه الدعوة السلفية النقية الصافية ، في الحجاز وعسير واليمن والشام والعراق ومصر ، والمغرب والسودان وكثير من البلاد الأفريقية ، وفي باكستان وأفغانستان ، والهند البنغال وجاوه ، وسومطرة ، وسائر الجزر الإندونيسية وغيرها . وكان من أبرز ثمار هذه الدعوة قيام دولة إسلامية قوية مهيبة احتلت موقعا مرموقا بين دول العالم كله ، والعالم الإسلامي بخاصة هي ( دولة آل سعود ) منذ أن ناصر مؤسسها محمد بن سعود إمام الدعوة وآزره على إعلاء كلمة الله . فقد كتب الله لها التمكين ، وأعلنت التوحيد وحكمت بشرع الله تعالى ، ومع ما تعرضت لـه هذه الدعوة والدولة من تحديات كبيرة ، وخصوم أشداء إلا أنها كانت تنتصر في النهاية . لقد تعرضت الدعوة والدولة ( السعودية ) في مراحلها الأولى لضربات موجعة لكنها كانت - حين قامت على التوحيد والدين والعدل والسنة - لا تلبث أن تنهض قوية فتية لأنها كانت تسكن القلوب ، وقد ذاق الناس في حكمها طعم الإيمان ، والأمن ، والعلم والاجتماع .
ولا يزال الأنموذج الحي للدعوة ودولتها قائما - بحمد الله - تحتله هذه البلاد المباركة ( المملكة العربية السعودية ) التي أرسى قواعدها الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - على الأسس المتينة : التوحيد والشرع والعلم ، وبناء دولة حديثة ، تجمع بين الأصالة في تحكيم شرع الله وحمايته والدعوة إليه وتعظيم شعائره وخدمة مشاعره ، وبين المعاصرة بالأخذ بأسباب القوة والنهضة والرقي ، من غير إخلال بالدين والفضيلة . ونسأل الله لهذه الدعوة وهذه الدولة المزيد من التمكين والنصر والتوفيق في سبيل - ص 13 - الإسلام ، وأن يجمع بها كلمة المسلمين على الحق والسنة . إن هذه الآثار الطيبة والثمار اليانعة الممتدة طيلة قرنين ونصف ، هي الرد العملي والعلمي ، الشرعي والمنطقي ، والواقعي على مفتريات الخصوم ، ففي الحال ما يغني عن المقال ، لكن حين عميت أبصار أهل الأهواء وبصائرهم عن إدراك الحقيقة والاعتراف بها ، وحين حجبت الحقائق عن الجاهلين كان لا بد من تجلية الحقيقة ، والله المستعان . ولا يزال كثيرون من الذين يجهلون الحقيقة عن المملكة أو يتجاهلونها ، أو الذين يلمزونها أو يحسدونها يصفونها بأنها ( دولة الوهابية ) على سبيل اللمز والطعن . وقبل الدخول في رد هذا اللمز في آخر هذا المؤلف - إن شاء الله - ينبغي أن أؤكد أن وصف هذه الدعوة بالوهابية يعد تزكية لا تقدر بثمن ؛ لأن الوهابية التي يعيرونها بها يقصدون بها دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ، والتي هي في الحقيقة : الإسلام والسنة وسبيل السلف الصالح ، والتزام كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . أما الوهابية على الوصف الذي افتراه الخصوم ، والتي تعني ( بزعمهم ) مذهبا خامسا ، أو فئة خارجة عن السنة والجماعة ، أو التي تعني عند أهل الأهواء والبدع والافتراق وأتباعهم من الغوغاء : ( بغض النبي - صلى الله عليه وسلم - والأولياء . . . ) أو نحو ذلك من المفتريات التي سيأتي ذكرها والرد عليها ، فهذه المفتريات لا تعدو أن تكون أكاذيب وأوهاما في خيالات القوم وعقولهم ، أو شائعات صدقوها دون تثبت . وقد ذكرت أن كل الذين أطلقوا هذه المفتريات والبهتان والذين صدقوا هذه الشائعات ليس عندهم من الدليل والبرهان ما يثبت شيئا من مزاعمهم ، بل المنصف والباحث عن الحقيقة يجد الأمر خلاف ما يفترون . فها هي المملكة العربية السعودية ( حكومة وشعبا ) كيان شامخ ملأ سمع العالم وبصره ، ظاهرة بكيانها الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي ، والدولي وجميع أحوالها وإصداراتها العلمية والإعلامية والأدبية والثقافية ، والفكرية وغير ذلك كله ( إلا ما شذ ) ينفي هذه المزاعم ؛ إذن فالمثالب التي ينسبونها لما يسمونه ( الوهابية ) ودولتها وأتباعها لا حقيقة لها . ولا يعني ذلك أننا نزكي أنفسنا مطلقا ، فإن عمل البشر مهما بلغ لا بد أن يعتريه النقص والتقصير والخلل والخطأ ، والناقد بصير . - ص 14 - بل يجب أن نعترف أنه حصل في بلادنا ومجتمعنا كثير من التحولات السلبية في كل مناحي الحياة ، وأصبنا بأدواء الأمم في بعض الأمور ، لكن مع ذلك لا تزال الأصول والثوابت والمسلمات قائمة ومتينة ومعتبرة بحمد الله . والحق : أن الأمة الإسلامية ، مع ما اعتراها من كثرة البدع والأهواء والجهل والإعراض والفرقة والشتات ، إلا أنها لا تزال فيها بقايا خير ، وولاء للإسلام ، وهذا التصور الحق هو الذي دفع هذه الدعوة المباركة إلى السعي الجاد واستنهاض نزعة الخير في الأمة . ولذلك لو أن الأمة الإسلامية سلمت من تضليل الخصوم ، ودعايات السوء التي حالت بينها وبين التعرف على طبيعة الحق الذي يحمله منهج هذه الدعوة التي يعيرونها بـ ( الوهابية ) لاستجاب كثير من المسلمين لداعي الحق ، وكان للمسلمين شأن آخر من العزة والقوة والاجتماع والهيبة . ولله الأمر من قبل ومن بعد . هذا . . . وقد حرصت خلال هذا البحث كله أن أركز على التأصيل وبيان المنهج الذي سارت عليه الدعوة وأتباعها ودولتها ، وتوثيق ذلك من كتبهم وأقوالهم ومواقفهم ، والواقع العلمي ، والعملي الذي يعيشونه ويعتمدونه ؛ لأن هذا أجدى في كشف الحقيقة ، وأبلغ في رد الشبهات وكشف الزيوف والمفتريات عليهم . ولذا آثرت الإقلال من المجادلات والتمادي في النقاش ، وأحسب أن هذا أبلغ في البيان وأقرب للإقناع ، وأجمع للشمل ، والله حسبنا ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب . ونسأل الله تعالى أن ينصر الحق وأهله ، وأن يخذل الباطل وأهله ، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى ، وما فيه خيرهم وعزهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة ، وأن يقيهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن . وصلى الله وسلم وبارك على خير الخلق أجمعين نبينا وحبيبنا محمد وآله ، وارض عن صحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بفضل الله ورحمته آمين
نجد التي سنتحدث عنها هنا هي نجد وسط جزيرة العرب التي انطلقت منها هذه الحركة الإصلاحية المباركة ( لا نجد العراق ) وهي أعني ( نجد الجزيرة ) ما بين الحجاز غربا والدهناء شرقا ، والربع الخالي جنوبا والنفود الكبرى شمالا . وقد استوعبت نجد منذ أيام الجاهلية الكثير من قبائل العرب الكبرى .==ومن أهم حواضر نجد : ( اليمامة ) وقراها ، كالدرعية والعيينة والرياض وحريملاء ، وموقع اليمامة في قلب نجد . وكان زعيمها حين هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة : هوذة بن علي بن ثمامة الحنفي ، وهو ممن دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام كسائر الملوك والرؤساء ، لكن هوذة لم يستجب لداعي الإسلام . ثم ملك بعده ثمامة بن أثال ، ولـه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة عجيبة انتهت بإعلانه للإسلام ونصرته لـه . وفي عام الوفود ( 9 ، 10هـ ) دخلت سائر القبائل والحواضر والبوادي النجدية في الإسلام . - ص 17 - ولما انتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى ، خرجت أحياء وقبائل كثيرة عن الولاء للإسلام ، وهم بين مرتد عن الإسلام ، وبين مانع للزكاة ، ولم يبق على الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف ، وبعض الأفراد والجماعات ، ومنهم صاحب اليمامة ثمامة بن أثال ومعه طائفة من قومه ، وقد قاتل مسيلمة مع جيوش أبي بكر - رضي الله عنه - وقبلها . وحين ظهرت دعاوى النبوة الكاذبة ، كان في نجد منها ، حركة مسيلمة الكذاب ، وكان قد ادعى النبوة قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن بعده قويت شوكته والتف حولـه المرتدون والمرتابون من أهل اليمامة وما حولها إلى أن هزمتهم جيوش الصديق - رضي الله عنه . ثم عادت اليمامة وسائر الأقاليم والقبائل النجدية إلى الإسلام بعد قتال المرتدين ، وبقيت نجد كلها في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وكذلك في عهد عمر - رضي الله عنه - وما بعدها ، تنعم بظل الإسلام الوارف وتخضع للدين كله .=نجد في عهد الدولة الأموية :
وفي عهود الدولة الأموية ، كانت نجد في خلافة معاوية - رضي الله عنه - وابنه يزيد وما بعدهما متنازعة بين قوى وسلطات مختلفة ، وفي حال تبعيتها لبني أمية كانت غالبا تتبع البحرين ( الأحساء ) أو المدينة النبوية==نجد في عهد الدولة العباسية :
وفي عهد دولة بني العباس ، كانت تبعية نجد للدولة متفاوت قوة وضعفا ؛ ففي أول العهد العباسي إلى 251هـ كانت نجد خاضعة للحكم العباسي وتتبع الوالي في الحجاز . وفي سنة ( 251هـ ) استقلت دويلة بني الأخيضر في الحجاز ، وهي دويلة شيعية زيدية اتسمت بالجور وسوء السيرة
ثم لما هزمتهم جيوش العباسيين ، فروا إلى نجد وأقاموا فيها إمارة لهم في منتصف القرن الثالث الهجري ، وامتدت إماراتهم إلى البحرين ( الأحساء ) إلى أن جاء القرامطة الباطنية - ص 18 - وكانت دولتهم قد قامت بالبحرين سنة ( 281هـ ) ، وهم يوافقون بني أخيضر في انتحال التشيع ، فلما قويت القرامطة صارت الأخيضرية تتبعها منذ سنة ( 317هـ ) تقريبا ، وكان لهيمنة هاتين الدولتين على نجد خلال هذه الأحقاب أثر بالغ السوء في انتشار الجهل والبدع والمحدثات والتقاليد الجاهلية ، وشيوع البناء على القبور ، والمشاهد والآثار واندراس الكثير من السنن ، وصرف المسلمين عن إخلاص العبادة لله وحده ، إلى التعلق بالمخلوقين ، إلى أن جاءت دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب المباركة فأنقذ الله بها العباد والبلاد من أوضار الشركيات والبدع والجهل والفرقة والضعف والهوان ، إلى التوحيد والسنة والعلم والجماعة ، والقوة والعزة . وفي الفترة ما بين نهاية الأخيضريين والقرامطة في منتصف القرن الخامس الهجري بقيت نجد ممزقة مشتتة بين زعامات وإمارات صغيرة متنازعة ، أو ولاءات رمزية لبعض الولايات المجاورة ، ومشيخة القبائل والعشائر المتنافر= وكذلك أمر نجد في عهد العثمانيين ، لم يكن أحسن حالا ، إذ لم تكن الدولة العثمانية ( الأتراك ) تأبه بنجد وأحداثها ، وليست عندها ذات شأن ؛ ولذلك لم يكن لها على نجد سلطة مباشرة ، بل كانت مهملة تتنازعها الإمارات المحلية ، أو المجاورة ، وكان قد اقتصر وجود الدولة العثمانية في جزيرة العرب على اليمن والحجاز والبحرين ( الأحساء ) وقد يكون لوالي الأحساء من قبل الأتراك شيء من الإشراف غير المباشر على نجد واليمامة بخاصة . وقد انقطع ذلك باستقلال زعيم بني خالد براك بن غرير بالأحساء عن الدولة العثمانية سنة ( 1080هـ ) . وكذلك من جهة الحجاز لم يكن هناك نفوذ فعلي للأتراك على نجد ، وإن كان بعض الأشراف قاموا بغزو بعض البلاد النجدية غزوات متفرقة ما بين سنة 986هـ وسنة ( 1107هـ ) لكن لم يكن لهم استقرار يذكر ، ولم يكن للأتراك عليهم سيادة فعلية ، عدا التبعية الشكلية والرمزية أحيانا . - ص 19 - ومع ذلك فإن هذه التبعية الشكلية إنما كانت تهدف إلى مجرد الاعتراف بالسيادة وجلب الضرائب ، أو تأمين السبل وتوفير المؤن ونحو ذلك ، ولم يكن لها تدخل فعلي في الشؤون الداخلية ، فكانت ولايات الإمارة والقضاء ، والحسبة ، والمرافق تتم من قبل أهل الأقاليم أنفسهم وليس للدولة العثمانية وولاتها فيها حل ولا عقد ، وهذا مما يرد به على الذين توهموا أن الإمام محمد بن عبد الوهاب والدولة السعودية خرجوا على الخلافة =====السمات العامة لنجد إبان ظهور الدعوة :
لقد اتسمت البيئة العامة في نجد التي ظهرت فيها دعوة الإمام بسمات خاصة كان لها أكبر الأثر في مسار الدعوة منها : الوضع الاجتماعي والأمني :
غلبة السمة القروية والبدوية عليها ، ففي نجد عدد كبير من القرى والواحات ، ويقطنها عدد أكبر من القبائل التي تعيش في البادية ، وليس بين الحاضرة والبادية وئام ، وكان العداء والتنافر سائدا بينهم ؛ لعدم وجود السلطان الذي يجمع الشمل ويحفظ الأمن ، ويقيم العدل ، كانت العلاقات بين البادية والحاضرة في عداء مستمر وسلب ونهب وقتال غالبا ، بل وكذلك الحال بين قرى الحاضرة نفسها ، حيث تسودها المنافرة والتشتت والحروب ، وكذلك الحياة بين القبائل البدوية تسودها الفوضى والعصبية والحمية الجاهلية ، والقتال والسلب والنهب ، وتحكمها الأعراف والعادات الجاهلية . تبعا لذلك نرى نجد في عهد قيام الدعوة مشتتة ومقسمة إلى إمارات ومشيخات صغيرة ومتناحرة . حتى وصل الحال إلى أن القرية الواحدة تتنازعها عدة زعامات ! ويكثر بينها التنافر والظلم والجور .
كما ساد بينهم - من الناحية الدينية - الجهل والإعراض وشيوع البدع ، فكان التصوف البدعي سائدا ، بما فيه التصوف الغالي ، كمذهب ابن عربي وابن الفارض ، والتصوف حيثما حل حلت الخرافة ، وساد الجهل ، وانتشرت البدع والخرافات والشركيات وشاعت المنكرات . - ص 20 - وإن كان يوجد - في الحاضرة - شيء من العلم الشرعي والعلماء ، وقليل من التعليم ( قراءة وكتابة ) ، ولكن كانت اهتمامات العلماء مقصورة على الفقه غالبا ، أما عنايتهم بالعقيدة والحديث والتفسير واللغة فهي قليلة ، وكما أن جهود العلماء أمام البدع والمنكرات ضعيفة . وقد بين الشيخ الإمام في إحدى رسائله هذه الأوضاع قائلا : « وعرفت ما عليه الناس من الجهل والغفلة والإعراض عما خلقوا لـه ، وعرفت ما هم عليه من دين الجاهلية ، وما معهم من الدين النبوي ، وعرفت أنهم بنوا دينهم على ألفاظ وأفعال أدركوا عليها أسلافهم ، نشأ عليها الصغير ، وهرم عليها الكبير » . إلى أن قال : « فانظر يا رجل حالك وحال أهل هذا الزمان ، أخذوا دينهم عن آبائهم ودانوا بالعرف والعادة » . وهذا عن الحاضرة ، أما البادية فقد ذكر ابن غنام وغيره ، أنهم : لا يعرفون الدين ولا يقيمون شعائره ، وكثيرون منهم يجحدون ، أو يجهلون الإيمان بالبعث
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه. أما بعد: أيها الإخوان الفضلاء، أيها الأبناء الأعزاء، هذه المحاضرة الموجزة أتقدم بها بين أيديكم تنويرا للأفكار، وإيضاحا للحقائق، ونصحا لله ولعباده، وأداء لبعض ما يجب علي من الحق نحو المحاضر عنه، وهذه المحاضرة عنوانها: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، دعوته وسيرته. لما كان الحديث عن المصلحين والدعاة والمجددين، والتذكير بأحوالهم وخصالهم الحميدة، وأعمالهم المجيدة، وشرح سيرتهم التي دلت على إخلاصهم، وعلى صدقهم في دعوتهم وإصلاحهم، لما كان الحديث عن هؤلاء المصلحين المشار إليهم، وعن أخلاقهم وأعمالهم وسيرتهم، مما تشتاق إليه النفوس، وترتاح له القلوب، ويود سماعه كل غيور على الدين، وكل راغب في الإصلاح، والدعوة إلى سبيل الحق، رأيت أن أتحدث إليكم عن رجل عظيم ومصلح كبير، وداعية غيور، ألا وهو الشيخ المجدد للإسلام في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية هو الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي. لقد عرف الناس هذا الإمام ولاسيما علماؤهم ورؤساؤهم، وكبراؤهم وأعيانهم في الجزيرة العربية وفي خارجها، ولقد كتب الناس عنه كتابات كثيرة ما بين موجز وما بين مطول، ولقد أفرده كثير من الناس بكتابات، حتى المستشرقون كتبوا عنه كتابات كثيرة، وكتب عنه آخرون في أثناء كتاباتهم عن المصلحين، وفي أثناء كتاباتهم في التاريخ، وصفه المنصفون منهم بأنه مصلح عظيم، وبأنه مجدد للإسلام، وبأنه على هدى ونور من ربه، وإن تعدادهم يشق كثيراً. ومن جملتهم المؤلف الكبير أبو بكر الشيخ حسين بن غنام الإحسائي. فقد كتب عن هذا الشيخ فأجاد وأفاد، وذكر سيرته وذكر غزواته، وأطنب في ذلك وكتب كثيرا من رسائله، واستنباطاته من كتاب الله عز وجل، ومنهم أيضا الشيخ عثمان بن بشر في كتابه عنوان المجد، فقد كتب عن هذا الشيخ أيضا، وعن دعوته، وعن سيرته، وعن تأريخ حياته، وعن غزواته وجهاده، ومنهم خارج الجزيرة الدكتور أحمد أمين في كتابه زعماء الإصلاح، فقد كتب عنه وأنصف، ومنهم الشيخ الكبير مسعود الندوي، فقد كتب عنه وسماه: المصلح المظلوم، وكتب عن سيرته وأجاد في ذلك، وكتب عنه أيضا آخرون، منهم الشيخ الكبير الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني، فقد كان في زمانه وقد كان على دعوته. فلما بلغه دعوة الشيخ سر بها وحمد الله عليها. وكذلك كتب عنه العلامة الكبير الشيخ محمد بن علي الشوكاني، صاحب نيل الأوطار ورثاه بمرثية عظيمة، وكتب عنه جمع غير هؤلاء يعرفهم القراء والعلماء وبمناسبة كون كثير من الناس قد يخفى عليه حال هذا الرجل وسيرته ودعوته رأيت أن أساهم في بيان حال هذا الرجل، وما كان عليه من سيرة حسنة، ودعوة صالحة، وجهاد صادق، وأن أشرح قليلا مما أعرفه عن هذا الإمام حتى يتبصر في أمره من كان عنده شيء من لبس، أو شيء من شك في حال هذا الرجل، ودعوته، وما كان عليه، ولد هذا الإمام في عام (1115) هجرية، هذا هو المشهور في مولده رحمة الله عليه، وقيل في عام (1111) هجرية، والمعروف الأول: أنه ولد في عام 1115 هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأكمل التحية. وتعلم على أبيه في بلدة العيينة، وهذه البلدة هي مسقط رأسه رحمة الله عليه وهي قرية معلومة في اليمامة في نجد، شمال غرب مدينة الرياض، بينها وبين الرياض مسيرة سبعين كيلو متر، ولد فيها رحمة الله عليه، ونشأ نشأة صالحة، وقرأ القرآن مبكرا واجتهد في الدراسة والتفقه على أبيه الشيخ عبد الوهاب بن سليمان وكان فقيها كبيرا، وكان عالما قديرا، وكان قاضيا في بلدة العيينة. ثم بعد بلوغ الحلم حج وقصد بيت الله الحرام، وأخذ عن بعض علماء الحرم الشريف. ثم توجه إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فاجتمع بعلمائها، وأقام فيها مدة، وأخذ عن عالمين كبيرين مشهورين في المدينة ذلك الوقت. وهما الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي، أصله من المجمعة، وهو والد الشيخ إبراهيم بن عبد الله صاحب العذب الفائض في علم الفرائض، وأخذ أيضا عن الشيخ الكبير محمد حياة السندي بالمدينة. هذان العالمان ممن اشتهر أخذ الشيخ عنهما بالمدينة، ولعله أخذ عن غيرهما ممن لا نعرف.
ورحل الشيخ لطلب العلم إلى العراق، فقصد البصرة واجتمع بعلمائها، وأخذ عنهم ما شاء الله من العلم، وأظهر الدعوة هناك إلى توحيد الله، ودعا الناس إلى السنة، وأظهر للناس أن الواجب على جميع المسلمين أن يأخذوا دينهم عن كتاب الله، وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وناقش وذاكر في ذلك، وناظر من هنالك من العلماء واشتهر من مشايخه هناك شخص يقال له الشيخ محمد المجموعي، وقد ثار عليه بعض علماء السوء بالبصرة، وحصل عليه وعلى شيخه المذكور بعض الأذى، فخرج من أجل ذلك، وكان من نيته أن يقصد الشام، فلم يقدر على ذلك لعدم وجود النفقة الكافية، فخرج من البصرة إلى الزبير، وتوجه من الزبير إلى الأحساء واجتمع بعلمائها وذاكرهم في أشياء من أصول الدين، ثم توجه إلى بلدة حريملاء وذلك (والله أعلم) في العقد الخامس من القرن الثاني عشر، لأن أباه كان قاضيا في العيينة، وصار بينه وبين أميرها نزاع، فانتقل عنها إلى حريملاء سنة 1139 هجرية، فقدم الشيخ محمد على أبيه في حريملاء بعد انتقاله إليها سنة 1139 هجرية، فيكون قدومه حريملاء في عام 1140 هجرية أو ما بعدها، واستقر هناك، ولم يزل مشتغلاً بالعلم والتعليم، والدعوة في حريملاء حتى مات والده عام 1153 هجرية، فحصل من بعض أهل حريملاء شر عليه، وهمَّ بعض السفلة بها أن يفتك به، وقيل إن بعضهم تسور عليه الجدار، فعلم بهم بعض الناس فهربوا، وبعد ذلك ارتحل الشيخ إلى العيينة رحمة الله عليه
وأسباب غضب هؤلاء السفلة عليه أنه كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، وكان يحث الأمراء على تعزير المجرمين، الذين يعتدون على الناس بالسلب والنهب والإيذاء، هؤلاء السفلة الذين يقال لهم العبيد هناك، ولما عرفوا من الشيخ أنه ضدهم، وأنه لا يرضى بأفعالهم، وأنه يحرض الأمراء على عقوباتهم، والحد من شرهم، غضبوا عليه وهموا أن يفتكوا به، فصانه الله وحماه، ثم انتقل إلى بلدة العيينة وأميرها إذ ذاك عثمان بن ناصر بن معمر، فنزل عليه ورحب به الأمير، وقال: قم بالدعوة إلى الله، ونحن معك وناصروك، وأظهر له الخير، والمحبة والموافقة على ما هو عليه. فاشتغل الشيخ بالتعليم والإرشاد والدعوة إلى الله عز وجل، وتوجيه الناس إلى الخير، والمحبة في الله رجالهم ونسائهم، واشتهر أمره في العيينة، وعظم صيته، وجاء إليه الناس من القرى المجاورة، وفي يوم من الأيام قال الشيخ للأمير عثمان: دعنا نهدم قبة زيد بن الخطاب رضي الله عنه فإنها أسست على غير هدى، وإن الله جل وعلا لا يرضى بهذا العمل، والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، وهذه القبة فتنت الناس وغيرت العقائد، وحصل بها الشرك فيجب هدمها، فقال الأمير: لا مانع من ذلك، فقال الشيخ: إني أخشى أن يثور أهل الجبيلة، والجبيلة قرية هنالك قريبة من القبر، فخرج عثمان ومعه جيش يبلغون 600 مقاتل لهدم القبة. ومعهم الشيخ رحمة الله عليه، فلما قربوا من القبة خرج أهل الجبيلة لما سمعوا بذلك لينصروها ويحموها. فلما رأوا الأمير عثمان ومن معه كفوا ورجعوا عن ذلك. فباشر الشيخ هدمها وإزالتها، فأزالها الله عز وجل على يديه رحمة الله عليه. ولنذكر نبذة عن حال نجد قبل قيام الشيخ رحمة الله عليه، وعن أسباب قيامه، ودعوته. كان أهل نجد قبل دعوة الشيخ على حالة لا يرضاها مؤمن، كان الشرك الأكبر قد نشأ وانتشر، حتى عبدت القباب وعبدت الأشجار، والأحجار، وعبدت الغيران، وعبد من يدعي بالولاية. وهو من المعتوهين، وعبد من دون الله أناس يدعون بالولاية، وهم مجانين مجاذيب لا عقول عندهم، واشتهر في نجد السحرة والكهنة، وسؤالهم وتصديقهم وليس هناك منكر إلا من شاء الله، وغلب على الناس الإقبال على الدنيا وشهواتها، وقل القائم لله والناصر لدين الله، وهكذا في الحرمين الشريفين، وفي اليمن اشتهر في ذلك الشرك، وبناء القباب على القبور، ودعاء الأولياء والاستغاثة بهم، وفي اليمن من ذلك الشيء الكثير، وفي بلدان نجد من ذلك ما لا يحصى، ما بين قبر وما بين غار، وبين شجرة وبين مجذوب ومجنون يدعى من دون الله ويستغاث به مع الله، وكذلك مما عرف في نجد واشتهر دعاء الجن والاستغاثة بهم، وذبح الذبائح لهم، وجعلها في الزوايا من البيوت رجاء نجدتهم، وخوف شرهم، فلما رأى الشيخ الإمام هذا الشرك وظهوره في الناس، وعدم وجود منكر لذلك، وقائم بالدعوة إلى الله في ذلك، شمر عن ساعد الجد، وصبر على الدعوة، وعرف أنه لا بد من جهاد، وصبر وتحمل للأذى، فجد في التعليم والتوجيه والإرشاد وهو في العيينة، وفي مكاتبة العلماء في ذلك، والمذاكرة معهم رجاء أن يقوموا معه في نصر دين الله، والمجاهدة في هذا الشرك وهذه الخرافات، فأجاب دعوته كثيرون من علماء نجد وعلماء الحرمين، وعلماء اليمن، وغيرهم وكتبوا إليه بالموافقة
وقصد مستقيم ونصر للحق، وهناك قبور أخرى منها قبر يقال إنه قبر ضرار بن الأزور، كانت عليه قبة هدمت أيضا، وهناك مشاهد أخرى أزالها الله عز وجل، وكانت هناك غيران وأشجار تعبد من دون الله جل وعلا، فأزيلت وقضي عليها وحذر الناس عنها. والمقصود أن الشيخ استمر رحمة الله عليه على الدعوة، قولاً وعملاً كما تقدم، ثم إن الشيخ أتته امرأة، واعترفت عنده بالزنا عدة مرات، وسأل عن عقلها فقيل إنها عاقلة ولا بأس بها، فلما صممت على الاعتراف، ولم ترجع عن اعترافها، ولم تدع إكراها ولا شبهة وكانت محصنة، أمر الشيخ رحمة الله عليه بأن ترجم فرجمت بأمره، حالة كونه قاضيا بالعيينة، فاشتهر أمره بعد ذلك بهدم القبة، وبرجم المرأة، وبالدعوة العظيمة إلى الله، وهجرة المهاجرين إلى العيينة. وبلغ أمير الأحساء وتوابعها من بني خالد سليمان ابن عريعر الخالدي أمر الشيخ، وأنه يدعو إلى الله، وأنه يهدم القباب، وأنه يقيم الحدود، فعظم على هذا البدوي أمر الشيخ، لأن من عادة البادية -إلا من هدى الله- الإقدام على الظلم، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وانتهاك الحرمات، فخاف أن هذا الشيخ يعظم أمره، ويزيل سلطان الأمير البدوي، فكتب إلى عثمان يتوعده، ويأمره أن يقتل هذا المطوع الذي عنده في العيينة، وقال: إن المطوع الذي عندكم بلغنا عنه كذا، وكذا!! فإما أن تقتله، وإما أن نقطع عنك خراجك الذي عندنا.!! وكان عنده للأمير عثمان خراج من الذهب، فعظم على عثمان أمر هذا الأمير، وخاف إن عصاه أن يقطع عنه خراجه أو يحاربه، فقال للشيخ: إن هذا الأمير كتب إلينا كذا وكذا، وإنه لا يحسن منا أن نقتلك، وإنا نخاف هذا الأمير ولا نستطيع محاربته، فإذا رأيت أن تخرج عنا فعلت، فقال الشيخ: إن الذي أدعو إليه هو دين الله، وتحقيق كلمة لا إله إلا الله وتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، فمن تمسك بهذا الدين، ونصره وصدق في ذلك نصره الله وأيده وولاه على بلاد أعدائه، فإن صبرت واستقمت، وقبلت هذا الخير فأبشر، فسينصرك الله ويحميك من هذا البدوي وغيره، وسوف يوليك الله بلاده وعشيرته. فقال: أيها الشيخ إنا لا نستطيع محاربته، ولا صبر لنا على مخالفته. فخرج الشيخ عند ذلك وتحول من العيينة إلى بلاد الدرعية، جاء إليها ماشياً فيما ذكروا، حتى وصل إليها في آخر النهار، وقد خرج من العيينة في أول النهار مشيا على الأقدام، لم يرحله عثمان، فدخل على شخص من خيارها في أعلى البلد يقال له محمد بن سويلم العريني، فنزل عليه ويقال إن هذا الرجل خاف من نزوله عليه، وضاقت به الأرض بما رحبت، وخاف من أمير الدرعية محمد بن سعود فطمأنه الشيخ وقال له: أبشر بخير وهذا الذي أدعو الناس إليه دين الله، وسوف يظهره الله. فبلغ محمد بن سعود خبر الشيخ محمد، ويقال إن الذي أخبره زوجته، جاء إليها بعض الصالحين، وقال لها: أخبري محمدا بهذا الرجل، وشجعيه على قبول دعوته، وحرضيه على مؤازرته ومساعدته، وكانت امرأة صالحة طيبة، فلما دخل عليها محمد بن سعود أمير الدرعية وملحقاتها، قالت له: أبشر بهذه الغنيمة العظيمة! هذه غنيمة ساقها الله إليك، رجل داعية يدعو إلى دين الله، يدعو إلى كتاب الله، يدعو إلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام يا لها من غنيمة! بادر بقبوله وبادر بنصرته، ولا تقف في ذلك أبدا، فقبل الأمير مشورتها، ثم تردد هل يذهب إليه أم يدعوه إليه؟! فأشير عليه، ويقال إن المرأة أيضا هي التي أشارت عليه مع جماعة من الصالحين، وقالوا له: لا ينبغي أن تدعوه إليك، بل ينبغي أن تقصده في منزله وأن تقصده أنت
وأن تعظم العلم والداعي إلى الخير، فأجاب إلى ذلك لما كتب الله له من السعادة والخير رحمة الله عليه، وأكرم مثواه، فذهب إلى الشيخ في بيت محمد بن سويلم وقصده وسلم عليه وتحدث معه، وقال له يا شيخ محمد: أبشر بالنصرة وأبشر بالأمن وأبشر بالمساعدة فقال له الشيخ: وأنت أبشر بالنصرة أيضا والتمكين والعاقبة الحميدة، هذا دين الله من نصره نصره الله، ومن أيده أيده الله، وسوف تجد آثار ذلك سريعا، فقال: يا شيخ سأبايعك على دين الله ورسوله، وعلى الجهاد في سبيل الله، ولكنني أخشى إذا أيدناك ونصرناك وأظهرك الله على أعداء الإسلام أن تبتغي غير أرضنا، وأن تنتقل عنا إلى أرض أخرى، فقال: لا؛ أبايعك على هذا، أبايعك على أن الدم بالدم، والهدم بالهدم، لا أخرج عن بلادك أبداً، فبايعه على النصرة، وعلى البقاء في البلد، وأنه يبقى عند الأمير يساعده، ويجاهد معه في سبيل الله، حتى يظهر دين الله، وتمت البيعة على ذلك. وتوافد الناس إلى الدرعية من كل مكان، من العيينة، وعرقة، ومنفوحة والرياض وغير ذلك من البلدان المجاورة، ولم تزل الدرعية موضع هجرة يهاجر إليها الناس من كل مكان، وتسامع الناس بأخبار الشيخ، ودروسه في الدرعية ودعوته إلى الله وإرشاده إليه، فأتوا زرافات ووحدانا، فأقام الشيخ بالدرعية معظما مؤيدا محبوبا منصورا، ورتب الدروس في الدرعية في العقائد، وفي القرآن الكريم، وفي التفسير، وفي الفقه، والحديث، ومصطلحه، والعلوم العربية، والتاريخية، وغير ذلك من العلوم النافعة. وتوافد الناس عليه من كل مكان، وتعلم عليه في الدرعية الشباب وغيرهم، ورتب للناس دروسا كثيرة للعامة والخاصة، ونشر العلم في الدرعية، واستمر على الدعوة، ثم بدأ بالجهاد وكاتب الناس إلى الدخول في هذا الميدان، وإزالة الشرك الذي في بلادهم، وبدأ بأهل نجد، وكاتب أمراءها وعلماءها، كاتب علماء الرياض، وأميرها دهام بن دواس، وكاتب علماء الخرج وأمراءها، وعلماء بلاد الجنوب والقصيم، وحائل، والوشم، وسدير، وغير ذلك. ولم يزل يكاتبهم ويكاتب علماءهم وأمراءهم، وهكذا علماء الأحساء وعلماء الحرمين الشريفين، وهكذا علماء الخارج في مصر، والشام والعراق، والهند، واليمن، وغير ذلك، ولم يزل يكاتب الناس ويقيم الحجج، ويذكر الناس ما وقع فيه أكثر الخلق من الشرك والبدع، وليس معنى هذا أنه ليس هناك أنصار للدين، بل هناك أنصار، والله جل وعلا ضمن لهذا الدين أن لا بد له من ناصر
ولا تزال طائفة في هذه الأمة على الحق منصورة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فهناك أنصار للحق في أقطار كثيرة، ولكن الحديث الآن عن نجد، فكان فيها من الشر والفساد والشرك والخرافات ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، مع أن فيها علماء فيهم خير، ولكن لم يقدر لهم أن ينشطوا في الدعوة وأن يقوموا بها كما ينبغي. وهناك أيضا في اليمن وغير اليمن دعاة إلى الحق، وأنصار قد عرفوا هذا الشرك وهذه الخرافات، ولكن لم يقدر الله لدعوتهم من النجاح ما قدر لدعوة الشيخ محمد لأسباب كثيرة، منها: عدم تيسر الناصر المساعد لهم، ومنها: عدم الصبر لكثير من الدعاة، وتحمل الأذى في سبيل الله. ومنها: قلة علوم بعض الدعاة التي يستطيع بها أن يوجه الناس بالأساليب المناسبة، والعبارات اللائقة، والحكمة والموعظة الحسنة. ومنها: أسباب أخرى غير هذه الأسباب، وبسبب هذا المكاتبات الكثيرة والرسائل والجهاد، اشتهر أمر الشيخ، وظهر أمر الدعوة، واتصلت رسائله بالعلماء في داخل الجزيرة وفي خارجها، وتأثر بدعوته جم غفير من الناس، في الهند وفي أندونيسيا وفي أفغانستان وفي أفريقيا وفي المغرب وهكذا في مصر، والشام والعراق، وكان هناك دعاة كثيرون، عندهم معرفة بالحق والدعوة إليه فلما بلغتهم دعوة الشيخ زاد نشاطهم وزادت قوتهم، واشتهروا بالدعوة، ولم تزل دعوة الشيخ تشتهر وتظهر بين العالم الإسلامي وغيره، ثم في هذا العصر الأخير طبعت كتبه، ورسائله، وكتب أبنائه وأحفاده، وأنصاره، وأعوانه من علماء المسلمين في الجزيرة وخارجها، وكذلك طبعت الكتب المؤلفة في دعوته، وترجمته، وأحوال أنصاره، حتى اشتهرت بين الناس في غالب الأقطار والأمصار، ومن المعلوم أن لكل نعمة حاسدا، وأن لكل داع أعداء كثيرين كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[2]، فلما اشتهر الشيخ بالدعوة، وكتب الكتابات الكثيرة، وألف المؤلفات القيمة، ونشرها في الناس، وكاتبه العلماء، ظهر جماعة كثيرون من حساده ومن مخالفيه، وظهر أيضا أعداء آخرون.
وصار أعداؤه وخصومه قسمين: قسم عادوه باسم العلم والدين، وقسم: عادوه باسم السياسة لكن تستروا بالعلم، وتستروا باسم الدين، واستغلوا عداوة من عاداه من العلماء، الذين أظهروا عداوته وقالوا إنه على غير الحق، وإنه كيت وكيت، والشيخ رحمة الله عليه مستمر في الدعوة يزيل الشبه، ويوضح الدليل، ويرشد الناس إلى الحقائق على ما هي عليه من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وطورا يقولون: إنه من الخوارج، وتارة يقولون: يخرق الإجماع ويدعي الاجتهاد المطلق، ولا يبالي بمن قبله من العلماء والفقهاء وتارة يرمونه بأشياء أخرى، وما ذاك إلا من قلة العلم من طائفة منهم، وطائفة أخرى قلدت غيرها، واعتمدت على غيرها، وطائفة أخرى خافت على مراكزها فعادته سياسة، وتسترت باسم الإسلام والدين، واعتمدت على أقوال المخرفين والمضللين. والخصوم في الحقيقة ثلاثة أقسام: علماء مخرفون يرون الحق باطلا والباطل حقا، ويعتقدون أن البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، ودعاءها من دون الله والاستغاثة بها وما أشبه ذلك دينٌ وهدى، ويعتقدون أن من أنكر ذلك فقد أبغض الصالحين، وأبغض الأولياء، وهو عدو يجب جهاده.
وقسم آخر: من المنسوبين للعلم جهلوا حقيقة هذا الرجل، ولم يعرفوا عنه الحق الذي دعا إليه، بل قلدوا غيرهم، وصدقوا ما قيل فيه من الخرافيين المضللين، وظنوا أنهم على هدى فيما نسبوه إليه من بغض الأولياء والأنبياء، ومن معاداتهم وإنكار كراماتهم. فذموا الشيخ، وعابوا دعوته ونفروا عنه. وقسم آخر: خافوا على المناصب والمراتب، فعادوه لئلا تمتد أيدي أنصار الدعوة الإسلامية إليهم، فتزيلهم عن مراكزهم، وتستولي على بلادهم، واستمرت الحرب الكلامية والمجادلات والمساجلات بين الشيخ وخصومه، يكاتبهم ويكاتبونه، ويجادلهم ويرد عليهم ويردون عليه، وهكذا جرى بين أبنائه وأحفاده وأنصاره، وبين خصوم الدعوة، حتى اجتمع من ذلك رسائل كثيرة، وردود جمة، وقد جمعت هذه الرسائل والفتاوى والردود فبلغت مجلدات، وقد طبع أكثرها والحمد لله، واستمر الشيخ في الدعوة والجهاد، وساعده الأمير محمد بن سعود أمير الدرعية، وجد الأسرة السعودية على ذلك؛ ورفعت راية الجهاد، وبدأ الجهاد من عام 1158هـ، بدأ الجهاد بالسيف وبالكلام، وبالحجة والبرهان، ثم استمرت الدعوة مع الجهاد بالسيف، ومعلوم أن الداعي إلى الله عز وجل إذا لم يكن لديه قوة تنصر الحق، وتنفذه فسرعان ما تخبو دعوته وتنطفئ شهرته، ثم يقل أنصاره، ومعلوم ما للسلاح من الأثر العظيم في نشر الدعوة، وقمع المعارضين، ونصر الحق وقمع الباطل، ولقد صدق الله العظيم في قوله عز وجل، وهو الصادق سبحانه في كل ما يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[3] فبين سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل بالبينات، وهي الحجج والبراهين الساطعة، التي يوضح الله بها الحق، ويدفع بها الباطل، وأنزل مع الرسل الكتاب الذي فيه البيان، والهدى والإيضاح، وأنزل معهم الميزان، وهو العدل الذي ينصف به المظلوم من الظالم، ويقام به الحق وينشر به الهدى، ويعامل الناس على ضوئه بالحق والقسط، وأنزل الحديد فيه بأس شديد، فيه قوة، وردع وزجر لمن خالف الحق، فالحديد لمن لم تنفع فيه الحجة، وتؤثر فيه البينة، فهو القامع.
ولقد أحسن من قال في مثل هذا: وما هو إلا الوحي أو حد مرهف *** تزيل ظباه أخدعي كل مائل فهذا دواء الداء من كل جاهل *** وهذا دواء الداء من كل عادل فالعاقل ذو الفطرة السليمة، ينتفع بالبينة، ويقبل الحق بدليله، أما الظالم التابع لهواه فلا يردعه إلا السيف، فجد الشيخ رحمه الله في الدعوة والجهاد، وساعده أنصاره من آل سعود طيب الله ثراهم على ذلك، واستمروا في الجهاد والدعوة من عام 1158 هـ إلى أن توفي الشيخ في عام 1206 هـ فاستمر الجهاد والدعوة قريباً من خمسين عاماً، جهاد، ودعوة ونضال، وجدال في الحق، وإيضاح لما قال الله ورسوله، ودعوة إلى دين الله، وإرشاد إلى ما شرعه رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى التزم الناس بالطاعة، ودخلوا في دين الله، وهدموا ما عندهم من القباب، وأزالوا ما لديهم من المساجد المبنية على القبور، وحكموا الشريعة، ودانوا بها وتركوا ما كانوا عليه من تحكيم سوالف الآباء والأجداد، وقوانينهم ورجعوا إلى الحق وعمرت المساجد بالصلوات، وحلقات العلم وأديت الزكوات، وصام الناس رمضان كما شرع الله عز وجل، وأُمِر بالمعروف، ونُهي عن المنكر، وساد الأمن في الأمصار والقرى والطرق والبوادي، ووقف البادية عند حدهم، ودخلوا في دين الله وقبلوا الحق، ونشر الشيخ فيهم الدعوة، وأرسل الشيخ إليهم المرشدين، والدعاة في الصحراء والبوادي، كما أرسل المعلمين، والمرشدين، والقضاة إلى البلدان والقرى، وعم هذا الخير العظيم والهدى المستبين نجدا كلها، وانتشر فيها الحق، وظهر فيها دين الله عز وجل.
ثم بعد وفاة الشيخ رحمة الله عليه، استمر أبناؤه وأحفاده، وتلاميذه، وأنصاره، في الدعوة والجهاد، وعلى رأس أبنائه الشيخ الإمام عبد الله بن محمد، والشيخ حسين بن محمد، والشيخ علي بن محمد، والشيخ إبراهيم بن محمد، ومن أحفاده الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ علي بن حسين والشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد، وجماعة آخرون، ومن تلاميذه أيضا الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وجمع غفير من علماء الدرعية، وغيرهم استمروا في الدعوة والجهاد ونشروا دين الله تعالى، وكتابة الرسائل وتأليف المؤلفات، وجهاد أعداء الدين، وليس بين هؤلاء الدعاة وخصومهم شيء، إلا أن هؤلاء دعوا إلى توحيد الله وإخلاص العبادة لله عز وجل، والاستقامة على ذلك، وهدم المساجد، والقباب التي على القبور، ودعوا إلى تحكيم الشريعة والاستقامة عليها، ودعوا إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود الشرعية، هذه أسباب النزاع بينهم وبين الناس. والخلاصة: أنهم أرشدوا إلى توحيد الله، وأمروهم بذلك، وحذروا الناس من الشرك بالله، ومن وسائله وذرائعه، وألزموا الناس بالشريعة الإسلامية، ومن أبى واستمر على الشرك بعد الدعوة والبيان، والإيضاح والحجة، جاهدوه في الله عز وجل، وقصدوه في بلاده حتى يخضع للحق، وينيب إليه، أو يلزموه به بالقوة والسيف حتى يخضع هو وأهل بلده إلى ذلك، وكذلك حذروا الناس من البدع والخرافات، التي ما أنزل الله بها من سلطان، كالبناء على القبور، واتخاذ القباب عليها والتحاكم إلى الطواغيت، وسؤال السحرة والكهنة، وتصديقهم وغير ذلك، فأزال الله ذلك على يدي الشيخ وأنصاره رحمة الله عليهم جميعاً. وعمرت المساجد بتدريس الكتاب العظيم والسنة المطهرة، والتأريخ الإسلامي، والعلوم العربية النافعة، وصار الناس في مذاكرة، وعلم، وهدى، ودعوة، وإرشاد، وآخرون منهم فيما يتعلق بدنياهم من الزراعة والصناعة وغير ذلك، علم، وعمل، ودعوة، وإرشاد، ودنيا ودين، فهو يتعلم ويذاكر، ومع ذلك يعمل في حقله الزراعي، أو في صناعته أو تجارته وغير ذلك، فتارة لدينه، وتارة لدنياه، دعاة إلى الله وموجهون إلى سبيله، ومع ذلك يشتغلون بأنواع الصناعة الرائجة في بلادهم، ويحصلون من ذلك على ما يغنيهم عن خارج بلادهم. وبعد فراغ الدعاة وآل سعود من نجد امتدت دعوتهم إلى الحرمين، وجنوب الجزيرة، وكاتبوا علماء الحرمين سابقا ولاحقا، فلما لم تجد الدعوة واستمر أهل الحرمين على ما هم عليه من تعظيم القباب، واتخاذها على القبور، ووجود الشرك عندها، والسؤال لأربابها، سار الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بعد وفاة الشيخ بإحدى عشرة سنة متوجها إلى جهة الحجاز، ونازل أهل الطائف ثم قصد أهل مكة، وكان أهل الطائف قد توجه إليهم قبل سعود الأمير عثمان بن عبد الرحمن المضايفي، ونازلهم بقوة أرسلها إليه الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد أمير الدرعية بقوة عظيمة من أهل نجد وغيرهم، وساعدوه حتى استولى على الطائف، وأخرج منها أمراء الشريف، وأظهر فيه الدعوة إلى الله وأرشد إلى الحق، ونهى فيها عن الشرك وعبادة ابن عباس وغيره مما كان يعبده هناك الجهال، والسفهاء من أهل الطائف. ثم توجه الأمير سعود عن أمر أبيه عبد العزيز إلى جهة الحجاز، وجمعت الجيوش حول مكة. فلما عرف شريفها أنه لا بد من التسليم أو الفرار فر إلى جدة، ودخل سعود ومن معه من المسلمين البلاد من غير قتال، واستولوا على مكة في فجر يوم السبت ثامن محرم من عام 1218 هـ وأظهروا الدعوة إلى دين الله وهدموا ما فيها من القباب التي بنيت على قبر خديجة وغيره، فأزالوا القباب كلها، وأظهروا فيها الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، وعينوا فيها العلماء المدرسين، والموجهين، والمرشدين، والقضاة الحاكمين بالشريعة، ثم بعد مدة وجيزة فتحت المدينة، واستولى آل سعود على المدينة في عام 1220 هـ بعد مكة بنحو سنتين، واستمر الحرمان في ولاية آل سعود، وعينوا فيها الموجهين والمرشدين، وأظهروا في البلاد العدل وتحكيم الشريعة، والإحسان إلى أهلها ولا سيما فقراؤهم ومحاويجهم فأحسنوا إليهم بالأموال، وواسوهم وعلموهم كتاب الله،
وأرشدوهم إلى الخير، وعظموا العلماء وشجعوهم على التعليم والإرشاد، ولم يزل الحرمان الشريفان تحت ولاية آل سعود إلى عام 1226 هـ، ثم بدأت الجيوش المصرية والتركية تتوجه إلى الحجاز، لجهاد آل سعود وإخراجهم من الحرمين، لأسباب كثيرة تقدم بعضها، وهذه الأسباب كما تقدم هي أن أعداءهم، وحسادهم، والمخرفين الذين ليس لهم بصيرة، وبعض السياسيين الذين أرادوا إخماد هذه الدعوة وخافوا منها أن تزيل مراكزهم، وأن تقضي على أطماعهم، كذبوا على الشيخ وأتباعه وأنصاره، وقالوا: إنهم يبغضون الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنهم يبغضون الأولياء، وينكرون كراماتهم وقالوا إنهم أيضا يقولون كيت وكيت، مما يزعمون أنهم يتنقصون به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وصدق هذا بعض الجهال، وبعض المغرضين، وجعلوه سلما للنيل منهم والجهاد لهم، وتشجيع الأتراك والمصريين على حربهم، فجرى ما جرى من الفتن والقتال، وصار القتال بين الجنود المصرية والتركية ومن معهم، وبين آل سعود في نجد، والحجاز، سجالا مدة طويلة من عام 1226 هـ إلى عام 1233 هـ سبع سنين كلها قتال ونضال بين قوى الحق وقوى الباطل. والخلاصة أن هذا هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، إنما قام لإظهار دين الله، وإرشاد الناس إلى توحيد الله، وإنكار ما أدخل الناس فيه من البدع والخرافات، وقام أيضا لإلزام الناس بالحق، وزجرهم عن الباطل، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر. هذه خلاصة دعوته رحمة الله تعالى عليه، وهو في العقيدة على طريقة السلف الصالح يؤمن بالله وبأسمائه وصفاته، ويؤمن بملائكته، ورسله، وكتبه، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره على طريقة أئمة الإسلام في توحيد الله، وإخلاص العبادة له جل وعلا، وفي الإيمان بأسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بالله سبحانه، لا يعطل صفات الله، ولا يشبه الله بخلقه، وفي الإيمان بالبعث والنشور، والجزاء والحساب، والجنة والنار، وغير ذلك ويقول في الإيمان ما قاله السلف إنه قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كل هذا من عقيدته رحمة الله عليه، فهو على طريقتهم وعلى عقيدتهم، قولا وعملا، لم يخرج عن طريقتهم تلك البتة، وليس له في ذلك مذهب خاص، ولا طريقة خاصة، بل هو على طريقة السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم بإحسان. رضي الله عن الجميع.
وإنما أظهر ذلك في نجد وما حولها، ودعا إلى ذلك، ثم جاهد عليه من أباه، وعانده، وقاتلهم، حتى ظهر دين الله وانتصر الحق، وكذلك هو على ما عليه المسلمون من الدعوة إلى الله، وإنكار الباطل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولكن الشيخ وأنصاره يدعون الناس إلى الحق، ويلزمونهم به، وينهونهم عن الباطل، وينكرونه عليهم، ويزجرونهم عنه حتى يتركوه، وكذلك جد في إنكار البدع والخرافات حتى أزالها الله سبحانه بسبب دعوته، فالأسباب الثلاثة المتقدمة آنفا هي أسباب العداوة والنزاع بينه وبين الناس وهي: أولا: إنكار الشرك والدعوة إلى التوحيد الخالص. ثانيا: إنكار البدع، والخرافات، كالبناء على القبور واتخاذها مساجد ونحو ذلك كالموالد والطرق التي أحدثتها طوائف المتصوفة. ثالثا: إنه يأمر الناس بالمعروف، ويلزمهم به بالقوة فمن أبى المعروف الذي أوجبه الله عليه، ألزم به وعزر عليه إذا تركه، وينهى الناس عن المنكرات، ويزجرهم عنها، ويقيم حدودها، ويلزم الناس بالحق، ويزجرهم عن الباطل وبذلك ظهر الحق وانتشر، وكبت الباطل وانقمع، وصار الناس في سيرة حسنة، ومنهج قويم في أسواقهم، وفي مساجدهم، وفي سائر أحوالهم. لا تعرف البدع بينهم، ولا يوجد في بلادهم الشرك، ولا تظهر المنكرات بينهم. بل من شاهد بلادهم وشاهد أحوالهم وما هم عليه ذكر حال السلف الصالح وما كانوا عليه زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وزمن أصحابه، وزمن أتباعه بإحسان في القرون المفضلة رحمة الله عليهم. فالقوم ساروا سيرتهم. ونهجوا منهجهم، وصبروا على ذلك، وجدوا فيه، وجاهدوا عليه، فلما حصل بعض التغيير في آخر الزمان بعد وفاة الشيخ محمد بمدة طويلة، ووفاة كثير من أبنائه رحمة الله عليهم وكثير من أنصاره حصل بعض التغيير جاء الابتلاء وجاء الامتحان بالدولة التركية، والدولة المصرية، مصداق قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[4] نسأل الله عز وجل أن يجعل ما أصابهم تكفيرا وتمحيصا من الذنوب، ورفعة وشهادة لمن قتل منهم رضي الله عنهم ورحمهم. ولم تزل دعوتهم بحمد الله قائمة منتشرة إلى يومنا هذا فإن الجنود المصرية لما عثت في نجد، وقتلت من قتلت، وخربت ما خربت، لم يمض على ذلك إلا سنوات قليلة ثم قامت الدعوة بعد ذلك وانتشرت، ونهض بالدعوة بعد ذلك بنحو خمس سنين الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود رحمة الله عليه فنشر الدعوة في نجد وما حولها، وانتشر العلماء في نجد وأخرج من كان هناك من الأتراك، والمصريين، أخرجهم من نجد وقراها، وبلدانها، وانتشرت الدعوة بعد ذلك في نجد في عام 1240
وكان تخريب الدرعية والقضاء على دولة آل سعود في عام 1233 هـ. فمكث الناس في نجد في فوضى، وقتال، وفتن نحو خمس سنين من أربع وثلاثين إلى عام 1239 هـ ثم في عام أربعين بعد المائتين وألف اجتمع شمل المسلمين في نجد على الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، وظهر الحق وكتب العلماء الرسائل، إلى القرى والبلدان، وشجعوا الناس ودعوهم إلى دين الله وانطفأت الفتن التي بينهم بعد الحروب الطويلة التي حصلت على أيدي المصريين وأعوانهم، وهكذا انطفأت الحروب والفتن التي وقعت بينهم على إثر تلك الحروب وخمدت نارها، وظهر دين الله، واشتغل الناس بعد ذلك بالتعليم والإرشاد، والدعوة، والتوجيه، حتى عادت المياه إلى مجاريها، وعاد الناس إلى أحوالهم، وما كانوا عليه في عهد الشيخ، وعهد تلامذته، وأبنائه، وأنصاره، رضي الله عن الجميع ورحمهم، واستمرت الدعوة من عام 1240 هـ إلى يومنا هذا بحمد الله، ولم يزل يخلف آل سعود بعضهم بعضا، وآل الشيخ وعلماء نجد بعضهم بعضا، فآل سعود يخلف بعضهم بعضا في الإمامة والدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله. وهكذا العلماء يخلف بعضهم بعضا في الدعوة إلى الله والإرشاد إليه، والتوجيه إلى الحق. إلا أن الحرمين الشريفين بقيا مفصولين عن الدولة السعودية دهراً طويلاً ثم عادا إليهم في عام 1343 هـ واستولى على الحرمين الشريفين الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد ابن سعود رحمة الله عليه، ولم يزالا بحمد الله تحت ولاية هذه الدولة إلى يومنا هذا. فلله الحمد، ونسأل الله عز وجل أن يصلح البقية الباقية من آل سعود، ومن آل الشيخ، ومن علماء المسلمين جميعا في هذه البلاد وغيرها وأن يوفقهم جميعا لما يرضيه، أن يصلح علماء المسلمين أينما كانوا، وأن ينصر بالجميع الحق، ويخذل بهم الباطل، وأن يوفق دعاة الهدى أينما كانوا للقيام بما أوجب الله عليهم، وأن يهدينا وإياهم صراطه المستقيم، وأن يعمر الحرمين الشريفين، وملحقاتهما، وسائر بلاد المسلمين بالهدى، ودين الحق، وبتعظيم كتاب الله، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وأن يمن على الجميع بالفقه فيهما، والتمسك بهما، والصبر على ذلك، والثبات عليه، والتحاكم إليهما، حتى يلقوا ربهم عز وجل، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. وهذا آخر ما تيسر بيانه، والتعريف به، من حال الشيخ، ودعوته وأنصاره، وخصومه، والله المستعان، وعليه الاتكال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله، وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه والحمد لله رب العالمين.
إسلامية لا وهابية
ردحذفتأليف
أ . د / ناصر بن عبد الكريم العقل - ص 4 - بسم الله الرحمن الرحيم - ص 5 - مقدمة
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله ، ورضي الله عن صحابته الكرام ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بفضلك اللهم .
وبعـــد :
فقد ثبت في الخبر الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين ، على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي وعد الله وهم كذلك وبين أنهم يقاتل آخرهم الدجال وينزل فيهم عيسى ابن مريم - عليه السلام - عند قيام الساعة .
وعلم يقينا أن هذه الطائفة هم من كان على منهاج النبوة ، فعمل بالسنة ولزم الجماعة وسار على نهج السلف الصالح ، وأن هذه الطائفة ( أهل السنة والجماعة ) لا يحصرهم زمان ولا مكان ، لكنهم قد يكثرون في زمان ويقلون في آخر ، وقد يكثرون في مكان ويقلون في آخر كذلك .
والمتأمل لحال المسلمين في القرون الأخيرة يجد أن أبرز أنموذج لهذه المسيرة الخيرة هي تلكم الدعوة الإصلاحية المباركة ، ودعوة التوحيد والسنة ، التي قام بها الإمام المجدد ( محمد بن عبد الوهاب ت 1206هـ ) ، وأيدها الأمير الصالح ( محمد بن سعود ت 1179هـ ) ( رحمهما الله ) التي ظهرت في منتصف القرن الثاني عشر الهجري في قلب نجد ، ثم سائر جزيرة العرب ، ثم امتدت آثارها الطيبة إلى كل أقطار العالم الإسلامي ، بل إلى كل أرجاء المعمورة . ولا تزال بحمد الله كذلك .
وقد لوحظ ، لا سيما مع الأحداث الأخيرة ، حروب الخليج ، وسقوط الاتحاد السوفييتي وأحداث ( 11 سبتمبر ) بأمريكا وما أعقبه من تداعيات ، لوحظ بصورة ملفتة ومريبة انبعاث كثير من المفتريات والأوهام والأساطير حول ما يسمونه : ( الوهابية ) .
- ص 6 - وشاعت هذه المفتريات وهذه الأكاذيب حول الدعوة وأتباعها وعلمائها ودولتها ( الدولة السعودية ) ، وأسهم في ترويجها الحاسدون والمناوئون والكائدون وربما صدقها الجاهلون بحقائق الأمور .
وإن الباحث في حقيقة هذه الدعوة ومفتريات خصومها ، وتحفظات بعض ناقديها ، والكم الهائل مما قيل في ذلك وكتب ، وما حشي في أذهان الناس تجاهها من تنفير وتضليل ؛ سيصاب بالذهول والحيرة - لأول وهلة .
لكن ما إن يلج المنصف في عمق القضية فسيجد الأمر أيسر وأبين مما يتصوره ، وحين يتجرد من الهوى والعصبية ستنكشف لـه الحقيقة ، وهي : أن هذه الدعوة الإصلاحية الكبرى ، إنما تمثل الإسلام الحق ، ومنهاج النبوة ، وسبيل المؤمنين والسلف الصالح في الجملة .
كما سيظهر لـه جليا أن ما يثار حولها وضدها من الشبهات ، إنما هو من قبيل الشائعات والمفتريات ، والأوهام والخيالات ، والبهتان . ومن الزبد الذي يذهب جفاء عند التحاكم إلى القرآن والسنة ، والأصول العلمية المعتبرة ، والنظر العقلي السليم .
وما أظن حركة من الحركات الإصلاحية واجهت من التحديات ، والظلم والبهتان ، كما واجهت هذه الدعوة ، ومع ذلك علت وانتصرت وآتت ثمارها الطيبة ( ولا تزال بحمد الله ) في كل مكان .
وما ذلك إلا لأنها قامت على ثوابت الدين الحق ( الإسلام ) لكن هذه الحقيقة خفيت على كثير من الناس ، فكان لا بد من تجليتها .
لذا فقد لزم الإسهام - في هذا المؤلف - في تجلية الحقيقة ، ورفع الظلم ، ودفع الباطل ورد المفتريات والمزاعم ، بالحجة والبرهان ، واستجلاء الحقيقة من خلال الواقع وشهادة المنصفين .
فإنه من الحقائق الثابتة الجلية أن هذه الدعوة الإصلاحية إنما هي امتداد للمنهج الذي كان عليه السلف الصالح أهل السنة والجماعة على امتداد التاريخ الإسلامي ، وهو منهج الإسلام الحق الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام والتابعون وأئمة الدين من الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل الحديث والفقه وغيرهم .
- ص 7 - إذن فهذه الحركة المباركة لم تكن إلا معبرة عن الإسلام نفسه ، مستهدفة إحياء ما اعترى تطبيقه من قبل كثير من المسلمين من غشاوة وجهل وإعراض وبدع .
وحيث قد اشتهرت عند غير أهلها ، وعند الجاهلين بحقيقتها باسم ( الوهابية ) فإن هذا الوصف انطلق أولا من الخصوم ، وكانوا يطلقونه على سبيل التنفير واللمز والتعيير ، ويزعمون أنه مذهب مبتدع في الإسلام ، أو مذهب خامس . وهذا ظلم .
فهي ليست سوى الإسلام والسنة كما جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وسار عليها السلف الصالح .
ردحذفولم يكن استعمال هذا الوصف مرضيا ولا شائعا عند أتباعها ، ومع ذلك صار لقب ( الوهابية ) وتسمية الدعوة الإصلاحية السلفية الحديثة به هو السائد لدى الكثيرين من الخصوم وبعض الأتباع والمؤيدين والمحايدين ( تنزلا ) .
بل تعدى الأمر إلى التوسع في إطلاق ( الوهابية ) على أشخاص وحركات منحرفة عن المنهج السليم ، وتخالف ما عليه السلف الصالح وما قامت عليه هذه الدعوة المباركة ، وهذا بسبب تراكمات الأكاذيب والأساطير التي نسجت حول الدعوة وأهلها بالباطل والبهتان .
إن أتباع هذه الحركة لا يرون صواب هذه التسمية ( الوهابية ) ولا ما انطوت عليه من مغالطات وأوهام ، لاعتبارات مقنعة كثيرة شرعية وعلمية ومنهجية وموضوعية وواقعية ، تتلخص فيما أشرت إليه من أنها تمثل تماما الإسلام الحق الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن سلك سبيل الهدى ، وإذن فحصره تحت مسمى غير الإسلام والسنة خطأ فادح وبدعة محدثة ومردودة .
كما ذكرت أن هذه الدعوة وأتباعها ودولتها ( الدولة السعودية في مراحلها الثلاث ) قد واجهت ، ولا تزال تواجه ، تحديات كبرى كلها ترتكز على المفتريات والاتهامات ، والشائعات والأكاذيب والأساطير التي لا تصمد أمام البحث الشرعي العلمي الأصيل والمتجرد .
وإن كان الناقدون قد يجدون في تجاوزات بعض المنتسبين للدعوة ما يتذرعون به في نقدها ، لكن عند التحقيق تزول هذه التهم .
إذ إن الناظر في المفردات الجزئية لكل دعوة أو مبدأ ، قد يجد فيها الكثير من الأخطاء والتجاوزات والتصرفات الشاذة والأقوال النادة والأحكام الخاطئة ، أو الأمور المشكلة والمشتبهة التي تحتاج إلى تثبت أو تفسير أو تدقيق أو استقراء للوصول إلى حكم علمي تطمئن إليه النفس .
- ص 8 - لكن أهل العلم وعقلاء الناس لديهم موازين علمية وعقلية وقواعد شرعية يزنون بها الأمور
ودعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب تخضع لهذه القاعدة ، إذ هي دعوة إسلامية محضة وسلفية خالصة ، تسير على منهج السلف الصالح ، فمرد الخلاف بينها وبين مخالفيها : الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح ، وقد بينت أن ما يتهمها به خصومها من الاتهامات على ثلاثة أنواع :
ردحذفالنـوع الأول : من الكذب الصريح والافتراء والبهتان ، وقد ورد ذكر كثير منه في هذا البحث .
النـوع الثاني : مما يكون من اللوازم غير اللازمة ، أو التلبيس ، أو التفسير الخاطئ ، ونحو ذلك مما يلتبس فيه الحق بالباطل ويجب رده إلى النصوص والأصول الشرعية والقواعد المعتبرة عند العقلاء ، والمنهج الذي عليه الدعوة .
النوع الثالث : أخطاء وتجاوزات وزلات ليست على المنهج الذي عليه الدعوة ، أو اجتهادات خاطئة أو مرجوحة ، وقد تصدر من أي من العلماء أو الولاة أو العامة ، والمنتسبين للدعوة . وكثير من الشبهات والاتهامات التي يتعلق بها الخصوم للطعن في الإمام وأتباعه ودعوته من هذا النوع .
وقد عرضت هذا المنهج بشيء من التفصيل في هذا البحث ليكون القاعدة والميزان في تقويم الدعوة ، وبيان مدى الظلم والإجحاف الحاصل لها ولأهلها في الاتهامات التي قيلت وذاعت عند الكثيرين ، بل ومدى البهتان والكذب من قبل بعض الخصوم الذين ظلموا هذه الدعوة ، أو ممن صدقوهم دون تثبت ولا نظر في المنهج والأصول التي عليها المعول في النقد والتقويم ، ودون اعتبار للحال والواقع الذي تعيشه الدعوة وأهلها .
وقد واجهت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب - كسائر الدعوات الإصلاحية - صورا عديدة من هذا الابتلاء والمواجهة والحرب الظالمة بجميع أنواعها من خصومها ، وما هذا الصراع إلا حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل إلى قيام الساعة .
كما أن الصراع بين الدعوة وبين خصومها إنما كان صراعا عقديا بالدرجة الأولى ، ومظاهر الصراع السياسي وغيره جاءت تباعا ؛ لأن الدعوة أعلنت نشر التوحيد والسنة ، ومحاربة الشركيات والبدع السائدة ، وأعلنت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقامة الحدود ، وتحقيق العدل ورفع الظلم ، والعمل بشرع الله في أمور الحياة ونشر العلم ، ومحاربة الجهل - ص 9 - والدجل والسحر .
وهذا يتصادم مع مصالح أهل الأهواء والمنتفعين من شيوع البدع والجهل والتخلف .
هذه هي الحقيقة ولا ش
وكل رسائل الدعوة وكتبها وأعمالها وتعاملاتها تدور على هذا الأصل : العودة للإسلام والسنة ، كما هي في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسيرة السلف الصالح ، نقية صافية من شوائب الشركيات والبدع والأهواء والجهالات والطرق والفرق ، والدجل .
ردحذفوهذا منبع الخلاف ومنشأ الصراع .
نعم ، لقد واجهت هذه الدعوة المباركة : إمامها وعلماؤها وقادتها ودولتها ، وأتباعها وأنصارها ومؤيدوها حيثما كانوا - ولا تزال تواجه - أصنافا من الخصوم ، وأنواعا من التحديات والمفتريات والدعايات المضادة والخصومات بالباطل .
فهي إذن - كأي دعوة وحركة إصلاحية جادة - قد اصطدمت بقوى وتحديات وعقبات كبرى ومكائد عظيمة ، وخصوم أقوياء ، وأعداء أشداء من ديانات وفرق ومذاهب ، ودول وجماعات ، وعلماء ورؤساء وأمراء ، بل وغوغاء وجهلة .
ومع ذلك كله كانت هذه الدعوة - حين قامت على الحق والعدل - تنتصر وتنتشر ، فقد قاوم إمامها وعلماؤها وأتباعها وأمراؤها كل هذه التحديات ، بقوة الإيمان واليقين والعلم والحلم ، والصبر والثبات .
ردحذفوإن الواقع ليشهد أن هذه الدعوة - رغم التحديات الكبيرة - كانت تظهر وتعلو وتؤتي ثمارها الطيبة حتى في فترات ضعف السلطة ، بل وفي البلاد التي لا توجد فيها لها سلطان ولا قوة حين لا تملك إلا قوة الحجة ، وما ذلك إلا لأنها تمثل الإسلام الحق الذي كتب الله لـه البقاء والظهور إلى قيام الساعة ؛ ولأنها تملك عوامل البقاء والثبات ومقومات القوة والنصر ؛ ولأنها تستمد القوة من نصرها لدين الله دين الحق والعدل ، ومن وعد الله تعالى لكل من نصر هذا الدين كما قال تعالى : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [سورة الحج ، من الآية : 40] .
ولأنها كانت تخاطب العقول السليمة والفطرة المستقيمة ، والقلوب الواعية المتجردة من الهوى .
إن من أقوى الوسائل لفصل النزاع بين المختلفين بعد التحاكم إلى الأصول الشرعية - ص 10 - والبراهين العقلية : شهادات الآخرين ، وقد شهد لهذه الدعوة المباركة ، وإمامها وعلمائها ودولتها وأتباعها كثيرون من أهل العلم والفكر والفضل والإنصاف ، من العلماء والأدباء والمفكرين والساسة والدعاة ، وغيرهم
من المؤيدين ، والمعارضين ، والمحايدين ، من المسلمين وغير المسلمين ، ومن كل بلاد العالم ومنذ نشأة الدعوة إلى يومنا هذا .
ردحذفوإن كل الذين شهدوا لهذه الدعوة وإمامها وعلمائها ودولتها وأتباعها ، كانوا يستندون في شهادتهم لها إلى البراهين والدلائل القاطعة التي لا يمكن أن يتجاوزها المنصف إلا معترفا بها ، ولا ينكرها إلا مكابر .
فإن فيما قاله أهلها وكتبوه وفعلوه ، وفي آثار هذه الدعوة الدينية والدنيوية العلمية والعملية ، في العقيدة ، والنظام والسياسية ، وسائر مناحي الحياة ومناشطها ، ما يشهد بالحق ويدحض الشبهات والمزاعم والتخرصات والاتهامات .
علما بأن الدعوة ودولتها كانت في مراحلها الأولى لا تملك من وسائل الدعاية والإغراء المادي ما يملكه خصومها كالأتراك وأمراء الأحساء ، وأشراف مكة والبلاد المجاورة ، وغير المجاورة .
ولو اقتصرنا في الدفاع عن الدعوة ودولتها على أقوال المحايدين وكثير من الخصوم في إنصافها والدفاع عنها لكان ذلك كافيا في بيان الحقيقة ورد الشبهات ، وإقناع من كان قصده الحق والتجرد من الهوى .
أما من كان دافعه الهوى والحسد أو العصبية أو المذهبية أو نحو ذلك من الدوافع الصارفة عن الحق فلا حيلة فيه ، كما قال الله تعالى في هذه الأصناف وأمثالهم من أسلافهم : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين [سورة الأنعام ، الآية : 4 ] .
فإذا كانت أحوال الدعوة ، وأقوالها ومؤلفاتها ، ومواقفها ، وشهادات عقلاء الناس تشهد لها فهل بعد هذا البيان من بيان ؟
والشهادات التي شهد بها كثيرون لهذه الدعوة المباركة كانت صادقة وطوعية ، ونابعة من الضمير ، فلم تكن نتيجة إغراءات ولا تضليل إعلامي ، ولا ضغط سياسي ، ولا تهديد ووعيد ( لا رغبة ولا رهبة ) ؛ لأن أتباع الدعوة ورجالها لم يكونوا يملكون شيئا من ذلك ، إلا الحجة والبرهان ( الدليل الشرعي والعقلي ) لكل من ألقى السمع وهو شهيد . ولذلك جاءت - ص 11 - شهادة المنصفين مفعمة بالصدق والشفافية والحماس البريء ، وخالية من أساليب المجاملات وأي من أشكال التكلف أو دوافع الرغبة أو الرهبة .
وكانوا يستندون إلى المنهج الذي قامت عليه وإلى الواقع الذي تعيشه في مجتمعها ، لا سيما من البلاد التي تشملها الدولة السعودية المعاصرة ، التي تميزت بحمد الله بصفاء العقيدة وظهور شعائر الدين ، واختفاء البدع ومظاهرها .
ردحذف- وأنها حققت الغايات التي جاء بها الإسلام : من تعبيد الناس لله وحده لا شريك لـه ، وطاعة الله ، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وإقامة فرائض الدين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد ، وتطبيق الحدود ، وتحكيم الشريعة الإسلامية في كل شؤون الحياة ، وابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة .
- وأنها رفعت المظالم والمكوس ، والضرائب التي تثقل كواهل الناس ، وسعت إلى تحقيق العدل والأمن ، بالتحاكم إلى شرع الله ، وتطبيق نظام القضاء بمقتضى الشريعة الإلهية .
- وأنها حررت العقول والنفوس من التعلق بغير الله ، من التعلق بالبدع والأوهام ، والدجل والشعوذة ونحو ذلك .
- وأنها هي الرائد الأول في أسباب النهضة العلمية والفكرية والأدبية الحديثة في جزيرة العرب وما حولها ، وسائر البلاد العربية والإسلامية .
- وأنها تمثل الأنموذج الأسلم لحركات الإصلاح والتحرير الحديثة في العالم الإسلامي ، وأنها تمثل الأنموذج الصحيح في الدعوة ، في العصر الحديث في تحقيق الدين ، وإصلاح الأفراد والمجتمعات ، وتخليص الأمة من البدع والأهواء والفرقة ووسائلها ، والتقليد والعصبية ، والتزام منهج السلف الصالح في الدعوة ووسائله وأهدافه وغاياته .
- كما رأى كثير منهم بأن هذه الدعوة بأصولها ومناهجها وتجاربها هي المؤهلة بأن تنهض بالأمة الإسلامية اليوم ، وتعيدها إلى سابق مجدها ، وتجمع شملها على الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح .
- وأوضحت أن من أكبر الردود على المفترين على هذه الدعوة وأتباعها ودولتها تلكم الثمار الطيبة والآثار الحسنة للدعوة حين قامت على أسس الدين الحق ، وقواعد الملة الحنيفية واعتمدت على الوحي المعصوم ( كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ) وسلكت سبيل المؤمنين - السلف الصالح أهل السنة والجماعة - فأعلنت راية التوحيد ورسخته في القلوب وأزالت مظاهر الشرك والبدعة ، وحكمت بشرع الله تعالى : شاع بذلك الأمن والعدل والألفة ، وانتشر العلم ، واختفت - ص 12 - مظاهر الظلم والشتات والجهل والبدعة والخرافة .
- لقد كانت لهذه الدعوة المباركة آثار عظيمة وكبيرة غيرت معالم التاريخ ، وعدلت مسار الحياة في الأمة الإسلامية كلها في جميع نواحي الحياة : الدينية والعلمية والسياسية والاجتماعية وغيرها .
ولم يقتصر أثرها الطيب على جزيرة العرب ( ونجد بخاصة ) ، التي ارتفعت في ربوعها راية التوحيد خفاقة وعلت فيها معالم السنة ، وزالت آثار البدعة والفرقة والجهل ، وساد فيها الأمن والوفاق .
بل تجاوز أثرها إلى بقية أقاليم الجزيرة العربية وإلى سائر أقطار المسلمين ، فقام علماء ومصلحون ، وقامت دعوات وحركات تسير على نهج هذه الدعوة السلفية النقية الصافية ، في الحجاز وعسير واليمن والشام والعراق ومصر ، والمغرب والسودان وكثير من البلاد الأفريقية ، وفي باكستان وأفغانستان ، والهند البنغال وجاوه ، وسومطرة ، وسائر الجزر الإندونيسية وغيرها .
وكان من أبرز ثمار هذه الدعوة قيام دولة إسلامية قوية مهيبة احتلت موقعا مرموقا بين دول العالم كله ، والعالم الإسلامي بخاصة هي ( دولة آل سعود ) منذ أن ناصر مؤسسها محمد بن سعود إمام الدعوة وآزره على إعلاء كلمة الله . فقد كتب الله لها التمكين ، وأعلنت التوحيد وحكمت بشرع الله تعالى ، ومع ما تعرضت لـه هذه الدعوة والدولة من تحديات كبيرة ، وخصوم أشداء إلا أنها كانت تنتصر في النهاية .
لقد تعرضت الدعوة والدولة ( السعودية ) في مراحلها الأولى لضربات موجعة لكنها كانت - حين قامت على التوحيد والدين والعدل والسنة - لا تلبث أن تنهض قوية فتية لأنها كانت تسكن القلوب ، وقد ذاق الناس في حكمها طعم الإيمان ، والأمن ، والعلم والاجتماع .
ولا يزال الأنموذج الحي للدعوة ودولتها قائما - بحمد الله - تحتله هذه البلاد المباركة ( المملكة العربية السعودية ) التي أرسى قواعدها الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - على الأسس المتينة : التوحيد والشرع والعلم ، وبناء دولة حديثة ، تجمع بين الأصالة في تحكيم شرع الله وحمايته والدعوة إليه وتعظيم شعائره وخدمة مشاعره ، وبين المعاصرة بالأخذ بأسباب القوة والنهضة والرقي ، من غير إخلال بالدين والفضيلة .
ردحذفونسأل الله لهذه الدعوة وهذه الدولة المزيد من التمكين والنصر والتوفيق في سبيل - ص 13 - الإسلام ، وأن يجمع بها كلمة المسلمين على الحق والسنة .
إن هذه الآثار الطيبة والثمار اليانعة الممتدة طيلة قرنين ونصف ، هي الرد العملي والعلمي ، الشرعي والمنطقي ، والواقعي على مفتريات الخصوم ، ففي الحال ما يغني عن المقال ، لكن حين عميت أبصار أهل الأهواء وبصائرهم عن إدراك الحقيقة والاعتراف بها ، وحين حجبت الحقائق عن الجاهلين كان لا بد من تجلية الحقيقة ، والله المستعان .
ولا يزال كثيرون من الذين يجهلون الحقيقة عن المملكة أو يتجاهلونها ، أو الذين يلمزونها أو يحسدونها يصفونها بأنها ( دولة الوهابية ) على سبيل اللمز والطعن .
وقبل الدخول في رد هذا اللمز في آخر هذا المؤلف - إن شاء الله - ينبغي أن أؤكد أن وصف هذه الدعوة بالوهابية يعد تزكية لا تقدر بثمن ؛ لأن الوهابية التي يعيرونها بها يقصدون بها دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ، والتي هي في الحقيقة : الإسلام والسنة وسبيل السلف الصالح ، والتزام كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
أما الوهابية على الوصف الذي افتراه الخصوم ، والتي تعني ( بزعمهم ) مذهبا خامسا ، أو فئة خارجة عن السنة والجماعة ، أو التي تعني عند أهل الأهواء والبدع والافتراق وأتباعهم من الغوغاء : ( بغض النبي - صلى الله عليه وسلم - والأولياء . . . ) أو نحو ذلك من المفتريات التي سيأتي ذكرها والرد عليها ، فهذه المفتريات لا تعدو أن تكون أكاذيب وأوهاما في خيالات القوم وعقولهم ، أو شائعات صدقوها دون تثبت .
وقد ذكرت أن كل الذين أطلقوا هذه المفتريات والبهتان والذين صدقوا هذه الشائعات ليس عندهم من الدليل والبرهان ما يثبت شيئا من مزاعمهم ، بل المنصف والباحث عن الحقيقة يجد الأمر خلاف ما يفترون .
فها هي المملكة العربية السعودية ( حكومة وشعبا ) كيان شامخ ملأ سمع العالم وبصره ، ظاهرة بكيانها الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي ، والدولي وجميع أحوالها وإصداراتها العلمية والإعلامية والأدبية والثقافية ، والفكرية وغير ذلك كله ( إلا ما شذ ) ينفي هذه المزاعم ؛ إذن فالمثالب التي ينسبونها لما يسمونه ( الوهابية ) ودولتها وأتباعها لا حقيقة لها .
ولا يعني ذلك أننا نزكي أنفسنا مطلقا ، فإن عمل البشر مهما بلغ لا بد أن يعتريه النقص والتقصير والخلل والخطأ ، والناقد بصير .
- ص 14 - بل يجب أن نعترف أنه حصل في بلادنا ومجتمعنا كثير من التحولات السلبية في كل مناحي الحياة ، وأصبنا بأدواء الأمم في بعض الأمور ، لكن مع ذلك لا تزال الأصول والثوابت والمسلمات قائمة ومتينة ومعتبرة بحمد الله .
والحق : أن الأمة الإسلامية ، مع ما اعتراها من كثرة البدع والأهواء والجهل والإعراض والفرقة والشتات ، إلا أنها لا تزال فيها بقايا خير ، وولاء للإسلام ، وهذا التصور الحق هو الذي دفع هذه الدعوة المباركة إلى السعي الجاد واستنهاض نزعة الخير في الأمة .
ولذلك لو أن الأمة الإسلامية سلمت من تضليل الخصوم ، ودعايات السوء التي حالت بينها وبين التعرف على طبيعة الحق الذي يحمله منهج هذه الدعوة التي يعيرونها بـ ( الوهابية ) لاستجاب كثير من المسلمين لداعي الحق ، وكان للمسلمين شأن آخر من العزة والقوة والاجتماع والهيبة . ولله الأمر من قبل ومن بعد .
هذا . . . وقد حرصت خلال هذا البحث كله أن أركز على التأصيل وبيان المنهج الذي سارت عليه الدعوة وأتباعها ودولتها ، وتوثيق ذلك من كتبهم وأقوالهم ومواقفهم ، والواقع العلمي ، والعملي الذي يعيشونه ويعتمدونه ؛ لأن هذا أجدى في كشف الحقيقة ، وأبلغ في رد الشبهات وكشف الزيوف والمفتريات عليهم . ولذا آثرت الإقلال من المجادلات والتمادي في النقاش ، وأحسب أن هذا أبلغ في البيان وأقرب للإقناع ، وأجمع للشمل ، والله حسبنا ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب .
ونسأل الله تعالى أن ينصر الحق وأهله ، وأن يخذل الباطل وأهله ، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى ، وما فيه خيرهم وعزهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة ، وأن يقيهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن .
وصلى الله وسلم وبارك على خير الخلق أجمعين نبينا وحبيبنا محمد وآله ، وارض عن صحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بفضل الله ورحمته آمين
حال نجد قبل دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب
ردحذفنجد التي سنتحدث عنها هنا هي نجد وسط جزيرة العرب التي انطلقت منها هذه الحركة الإصلاحية المباركة ( لا نجد العراق ) وهي أعني ( نجد الجزيرة ) ما بين الحجاز غربا والدهناء شرقا ، والربع الخالي جنوبا والنفود الكبرى شمالا .
وقد استوعبت نجد منذ أيام الجاهلية الكثير من قبائل العرب الكبرى .==ومن أهم حواضر نجد : ( اليمامة ) وقراها ، كالدرعية والعيينة والرياض وحريملاء ، وموقع اليمامة في قلب نجد .
وكان زعيمها حين هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة : هوذة بن علي بن ثمامة الحنفي ، وهو ممن دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام كسائر الملوك والرؤساء ، لكن هوذة لم يستجب لداعي الإسلام .
ثم ملك بعده ثمامة بن أثال ، ولـه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة عجيبة انتهت بإعلانه للإسلام ونصرته لـه .
وفي عام الوفود ( 9 ، 10هـ ) دخلت سائر القبائل والحواضر والبوادي النجدية في الإسلام .
- ص 17 - ولما انتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى ، خرجت أحياء وقبائل كثيرة عن الولاء للإسلام ، وهم بين مرتد عن الإسلام ، وبين مانع للزكاة ، ولم يبق على الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف ، وبعض الأفراد والجماعات ، ومنهم صاحب اليمامة ثمامة بن أثال ومعه طائفة من قومه ، وقد قاتل مسيلمة مع جيوش أبي بكر - رضي الله عنه - وقبلها .
وحين ظهرت دعاوى النبوة الكاذبة ، كان في نجد منها ، حركة مسيلمة الكذاب ، وكان قد ادعى النبوة قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن بعده قويت شوكته والتف حولـه المرتدون والمرتابون من أهل اليمامة وما حولها إلى أن هزمتهم جيوش الصديق - رضي الله عنه .
ثم عادت اليمامة وسائر الأقاليم والقبائل النجدية إلى الإسلام بعد قتال المرتدين ، وبقيت نجد كلها في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وكذلك في عهد عمر - رضي الله عنه - وما بعدها ، تنعم بظل الإسلام الوارف وتخضع للدين كله .=نجد في عهد الدولة الأموية :
وفي عهود الدولة الأموية ، كانت نجد في خلافة معاوية - رضي الله عنه - وابنه يزيد وما بعدهما متنازعة بين قوى وسلطات مختلفة ، وفي حال تبعيتها لبني أمية كانت غالبا تتبع البحرين ( الأحساء ) أو المدينة النبوية==نجد في عهد الدولة العباسية :
وفي عهد دولة بني العباس ، كانت تبعية نجد للدولة متفاوت قوة وضعفا ؛ ففي أول العهد العباسي إلى 251هـ كانت نجد خاضعة للحكم العباسي وتتبع الوالي في الحجاز .
وفي سنة ( 251هـ ) استقلت دويلة بني الأخيضر في الحجاز ، وهي دويلة شيعية زيدية اتسمت بالجور وسوء السيرة
ثم لما هزمتهم جيوش العباسيين ، فروا إلى نجد وأقاموا فيها إمارة لهم في منتصف القرن الثالث الهجري ، وامتدت إماراتهم إلى البحرين ( الأحساء ) إلى أن جاء القرامطة الباطنية - ص 18 - وكانت دولتهم قد قامت بالبحرين سنة ( 281هـ ) ، وهم يوافقون بني أخيضر في انتحال التشيع ، فلما قويت القرامطة صارت الأخيضرية تتبعها منذ سنة ( 317هـ ) تقريبا ، وكان لهيمنة هاتين الدولتين على نجد خلال هذه الأحقاب أثر بالغ السوء في انتشار الجهل والبدع والمحدثات والتقاليد الجاهلية ، وشيوع البناء على القبور ، والمشاهد والآثار واندراس الكثير من السنن ، وصرف المسلمين عن إخلاص العبادة لله وحده ، إلى التعلق بالمخلوقين ، إلى أن جاءت دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب المباركة فأنقذ الله بها العباد والبلاد من أوضار الشركيات والبدع والجهل والفرقة والضعف والهوان ، إلى التوحيد والسنة والعلم والجماعة ، والقوة والعزة .
ردحذفوفي الفترة ما بين نهاية الأخيضريين والقرامطة في منتصف القرن الخامس الهجري بقيت نجد ممزقة مشتتة بين زعامات وإمارات صغيرة متنازعة ، أو ولاءات رمزية لبعض الولايات المجاورة ، ومشيخة القبائل والعشائر المتنافر=
وكذلك أمر نجد في عهد العثمانيين ، لم يكن أحسن حالا ، إذ لم تكن الدولة العثمانية ( الأتراك ) تأبه بنجد وأحداثها ، وليست عندها ذات شأن ؛ ولذلك لم يكن لها على نجد سلطة مباشرة ، بل كانت مهملة تتنازعها الإمارات المحلية ، أو المجاورة ، وكان قد اقتصر وجود الدولة العثمانية في جزيرة العرب على اليمن والحجاز والبحرين ( الأحساء ) وقد يكون لوالي الأحساء من قبل الأتراك شيء من الإشراف غير المباشر على نجد واليمامة بخاصة .
وقد انقطع ذلك باستقلال زعيم بني خالد براك بن غرير بالأحساء عن الدولة العثمانية سنة ( 1080هـ ) .
وكذلك من جهة الحجاز لم يكن هناك نفوذ فعلي للأتراك على نجد ، وإن كان بعض الأشراف قاموا بغزو بعض البلاد النجدية غزوات متفرقة ما بين سنة 986هـ وسنة ( 1107هـ ) لكن لم يكن لهم استقرار يذكر ، ولم يكن للأتراك عليهم سيادة فعلية ، عدا التبعية الشكلية والرمزية أحيانا .
- ص 19 - ومع ذلك فإن هذه التبعية الشكلية إنما كانت تهدف إلى مجرد الاعتراف بالسيادة وجلب الضرائب ، أو تأمين السبل وتوفير المؤن ونحو ذلك ، ولم يكن لها تدخل فعلي في الشؤون الداخلية ، فكانت ولايات الإمارة والقضاء ، والحسبة ، والمرافق تتم من قبل أهل الأقاليم أنفسهم وليس للدولة العثمانية وولاتها فيها حل ولا عقد ، وهذا مما يرد به على الذين توهموا أن الإمام محمد بن عبد الوهاب والدولة السعودية خرجوا على الخلافة =====السمات العامة لنجد إبان ظهور الدعوة :
لقد اتسمت البيئة العامة في نجد التي ظهرت فيها دعوة الإمام بسمات خاصة كان لها أكبر الأثر في مسار الدعوة منها :
الوضع الاجتماعي والأمني :
غلبة السمة القروية والبدوية عليها ، ففي نجد عدد كبير من القرى والواحات ، ويقطنها عدد أكبر من القبائل التي تعيش في البادية ، وليس بين الحاضرة والبادية وئام ، وكان العداء والتنافر سائدا بينهم ؛ لعدم وجود السلطان الذي يجمع الشمل ويحفظ الأمن ، ويقيم العدل ، كانت العلاقات بين البادية والحاضرة في عداء مستمر وسلب ونهب وقتال غالبا ، بل وكذلك الحال بين قرى الحاضرة نفسها ، حيث تسودها المنافرة والتشتت والحروب ، وكذلك الحياة بين القبائل البدوية تسودها الفوضى والعصبية والحمية الجاهلية ، والقتال والسلب والنهب ، وتحكمها الأعراف والعادات الجاهلية .
تبعا لذلك نرى نجد في عهد قيام الدعوة مشتتة ومقسمة إلى إمارات ومشيخات صغيرة ومتناحرة .
حتى وصل الحال إلى أن القرية الواحدة تتنازعها عدة زعامات ! ويكثر بينها التنافر والظلم والجور .
لوضع الديني :
ردحذفكما ساد بينهم - من الناحية الدينية - الجهل والإعراض وشيوع البدع ، فكان التصوف البدعي سائدا ، بما فيه التصوف الغالي ، كمذهب ابن عربي وابن الفارض ، والتصوف حيثما حل حلت الخرافة ، وساد الجهل ، وانتشرت البدع والخرافات والشركيات وشاعت المنكرات .
- ص 20 - وإن كان يوجد - في الحاضرة - شيء من العلم الشرعي والعلماء ، وقليل من التعليم ( قراءة وكتابة ) ، ولكن كانت اهتمامات العلماء مقصورة على الفقه غالبا ، أما عنايتهم بالعقيدة والحديث والتفسير واللغة فهي قليلة ، وكما أن جهود العلماء أمام البدع والمنكرات ضعيفة .
وقد بين الشيخ الإمام في إحدى رسائله هذه الأوضاع قائلا : « وعرفت ما عليه الناس من الجهل والغفلة والإعراض عما خلقوا لـه ، وعرفت ما هم عليه من دين الجاهلية ، وما معهم من الدين النبوي ، وعرفت أنهم بنوا دينهم على ألفاظ وأفعال أدركوا عليها أسلافهم ، نشأ عليها الصغير ، وهرم عليها الكبير » . إلى أن قال : « فانظر يا رجل حالك وحال أهل هذا الزمان ، أخذوا دينهم عن آبائهم ودانوا بالعرف والعادة » .
وهذا عن الحاضرة ، أما البادية فقد ذكر ابن غنام وغيره ، أنهم : لا يعرفون الدين ولا يقيمون شعائره ، وكثيرون منهم يجحدون ، أو يجهلون الإيمان بالبعث
ردحذفالحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد: أيها الإخوان الفضلاء، أيها الأبناء الأعزاء، هذه المحاضرة الموجزة أتقدم بها بين أيديكم تنويرا للأفكار، وإيضاحا للحقائق، ونصحا لله ولعباده، وأداء لبعض ما يجب علي من الحق نحو المحاضر عنه، وهذه المحاضرة عنوانها: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، دعوته وسيرته.
لما كان الحديث عن المصلحين والدعاة والمجددين، والتذكير بأحوالهم وخصالهم الحميدة، وأعمالهم المجيدة، وشرح سيرتهم التي دلت على إخلاصهم، وعلى صدقهم في دعوتهم وإصلاحهم، لما كان الحديث عن هؤلاء المصلحين المشار إليهم، وعن أخلاقهم وأعمالهم وسيرتهم، مما تشتاق إليه النفوس، وترتاح له القلوب، ويود سماعه كل غيور على الدين، وكل راغب في الإصلاح، والدعوة إلى سبيل الحق، رأيت أن أتحدث إليكم عن رجل عظيم ومصلح كبير، وداعية غيور، ألا وهو الشيخ المجدد للإسلام في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية هو الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي.
لقد عرف الناس هذا الإمام ولاسيما علماؤهم ورؤساؤهم، وكبراؤهم وأعيانهم في الجزيرة العربية وفي خارجها، ولقد كتب الناس عنه كتابات كثيرة ما بين موجز وما بين مطول، ولقد أفرده كثير من الناس بكتابات، حتى المستشرقون كتبوا عنه كتابات كثيرة، وكتب عنه آخرون في أثناء كتاباتهم عن المصلحين، وفي أثناء كتاباتهم في التاريخ، وصفه المنصفون منهم بأنه مصلح عظيم، وبأنه مجدد للإسلام، وبأنه على هدى ونور من ربه، وإن تعدادهم يشق كثيراً.
ومن جملتهم المؤلف الكبير أبو بكر الشيخ حسين بن غنام الإحسائي. فقد كتب عن هذا الشيخ فأجاد وأفاد، وذكر سيرته وذكر غزواته، وأطنب في ذلك وكتب كثيرا من رسائله، واستنباطاته من كتاب الله عز وجل، ومنهم أيضا الشيخ عثمان بن بشر في كتابه عنوان المجد، فقد كتب عن هذا الشيخ أيضا، وعن دعوته، وعن سيرته، وعن تأريخ حياته، وعن غزواته وجهاده، ومنهم خارج الجزيرة الدكتور أحمد أمين في كتابه زعماء الإصلاح، فقد كتب عنه وأنصف، ومنهم الشيخ الكبير مسعود الندوي، فقد كتب عنه وسماه: المصلح المظلوم، وكتب عن سيرته وأجاد في ذلك، وكتب عنه أيضا آخرون، منهم الشيخ الكبير الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني، فقد كان في زمانه وقد كان على دعوته. فلما بلغه دعوة الشيخ سر بها وحمد الله عليها.
وكذلك كتب عنه العلامة الكبير الشيخ محمد بن علي الشوكاني، صاحب نيل الأوطار ورثاه بمرثية عظيمة، وكتب عنه جمع غير هؤلاء يعرفهم القراء والعلماء وبمناسبة كون كثير من الناس قد يخفى عليه حال هذا الرجل وسيرته ودعوته رأيت أن أساهم في بيان حال هذا الرجل، وما كان عليه من سيرة حسنة، ودعوة صالحة، وجهاد صادق، وأن أشرح قليلا مما أعرفه عن هذا الإمام حتى يتبصر في أمره من كان عنده شيء من لبس، أو شيء من شك في حال هذا الرجل، ودعوته، وما كان عليه، ولد هذا الإمام في عام (1115) هجرية، هذا هو المشهور في مولده رحمة الله عليه، وقيل في عام (1111) هجرية، والمعروف الأول: أنه ولد في عام 1115 هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأكمل التحية.
وتعلم على أبيه في بلدة العيينة، وهذه البلدة هي مسقط رأسه رحمة الله عليه وهي قرية معلومة في اليمامة في نجد، شمال غرب مدينة الرياض، بينها وبين الرياض مسيرة سبعين كيلو متر، ولد فيها رحمة الله عليه، ونشأ نشأة صالحة، وقرأ القرآن مبكرا واجتهد في الدراسة والتفقه على أبيه الشيخ عبد الوهاب بن سليمان وكان فقيها كبيرا، وكان عالما قديرا، وكان قاضيا في بلدة العيينة. ثم بعد بلوغ الحلم حج وقصد بيت الله الحرام، وأخذ عن بعض علماء الحرم الشريف. ثم توجه إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فاجتمع بعلمائها، وأقام فيها مدة، وأخذ عن عالمين كبيرين مشهورين في المدينة ذلك الوقت. وهما الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي، أصله من المجمعة، وهو والد الشيخ إبراهيم بن عبد الله صاحب العذب الفائض في علم الفرائض، وأخذ أيضا عن الشيخ الكبير محمد حياة السندي بالمدينة. هذان العالمان ممن اشتهر أخذ الشيخ عنهما بالمدينة، ولعله أخذ عن غيرهما ممن لا نعرف.
ورحل الشيخ لطلب العلم إلى العراق، فقصد البصرة واجتمع بعلمائها، وأخذ عنهم ما شاء الله من العلم، وأظهر الدعوة هناك إلى توحيد الله، ودعا الناس إلى السنة، وأظهر للناس أن الواجب على جميع المسلمين أن يأخذوا دينهم عن كتاب الله، وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وناقش وذاكر في ذلك، وناظر من هنالك من العلماء واشتهر من مشايخه هناك شخص يقال له الشيخ محمد المجموعي، وقد ثار عليه بعض علماء السوء بالبصرة، وحصل عليه وعلى شيخه المذكور بعض الأذى، فخرج من أجل ذلك، وكان من نيته أن يقصد الشام، فلم يقدر على ذلك لعدم وجود النفقة الكافية، فخرج من البصرة إلى الزبير، وتوجه من الزبير إلى الأحساء واجتمع بعلمائها وذاكرهم في أشياء من أصول الدين، ثم توجه إلى بلدة حريملاء وذلك (والله أعلم) في العقد الخامس من القرن الثاني عشر، لأن أباه كان قاضيا في العيينة، وصار بينه وبين أميرها نزاع، فانتقل عنها إلى حريملاء سنة 1139 هجرية، فقدم الشيخ محمد على أبيه في حريملاء بعد انتقاله إليها سنة 1139 هجرية، فيكون قدومه حريملاء في عام 1140 هجرية أو ما بعدها، واستقر هناك، ولم يزل مشتغلاً بالعلم والتعليم، والدعوة في حريملاء حتى مات والده عام 1153 هجرية، فحصل من بعض أهل حريملاء شر عليه، وهمَّ بعض السفلة بها أن يفتك به، وقيل إن بعضهم تسور عليه الجدار، فعلم بهم بعض الناس فهربوا، وبعد ذلك ارتحل الشيخ إلى العيينة رحمة الله عليه
ردحذفوأسباب غضب هؤلاء السفلة عليه أنه كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، وكان يحث الأمراء على تعزير المجرمين، الذين يعتدون على الناس بالسلب والنهب والإيذاء، هؤلاء السفلة الذين يقال لهم العبيد هناك، ولما عرفوا من الشيخ أنه ضدهم، وأنه لا يرضى بأفعالهم، وأنه يحرض الأمراء على عقوباتهم، والحد من شرهم، غضبوا عليه وهموا أن يفتكوا به، فصانه الله وحماه، ثم انتقل إلى بلدة العيينة وأميرها إذ ذاك عثمان بن ناصر بن معمر، فنزل عليه ورحب به الأمير، وقال: قم بالدعوة إلى الله، ونحن معك وناصروك، وأظهر له الخير، والمحبة والموافقة على ما هو عليه.
ردحذففاشتغل الشيخ بالتعليم والإرشاد والدعوة إلى الله عز وجل، وتوجيه الناس إلى الخير، والمحبة في الله رجالهم ونسائهم، واشتهر أمره في العيينة، وعظم صيته، وجاء إليه الناس من القرى المجاورة، وفي يوم من الأيام قال الشيخ للأمير عثمان: دعنا نهدم قبة زيد بن الخطاب رضي الله عنه فإنها أسست على غير هدى، وإن الله جل وعلا لا يرضى بهذا العمل، والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، وهذه القبة فتنت الناس وغيرت العقائد، وحصل بها الشرك فيجب هدمها، فقال الأمير: لا مانع من ذلك، فقال الشيخ: إني أخشى أن يثور أهل الجبيلة، والجبيلة قرية هنالك قريبة من القبر، فخرج عثمان ومعه جيش يبلغون 600 مقاتل لهدم القبة. ومعهم الشيخ رحمة الله عليه، فلما قربوا من القبة خرج أهل الجبيلة لما سمعوا بذلك لينصروها ويحموها. فلما رأوا الأمير عثمان ومن معه كفوا ورجعوا عن ذلك. فباشر الشيخ هدمها وإزالتها، فأزالها الله عز وجل على يديه رحمة الله عليه. ولنذكر نبذة عن حال نجد قبل قيام الشيخ رحمة الله عليه، وعن أسباب قيامه، ودعوته.
كان أهل نجد قبل دعوة الشيخ على حالة لا يرضاها مؤمن، كان الشرك الأكبر قد نشأ وانتشر، حتى عبدت القباب وعبدت الأشجار، والأحجار، وعبدت الغيران، وعبد من يدعي بالولاية. وهو من المعتوهين، وعبد من دون الله أناس يدعون بالولاية، وهم مجانين مجاذيب لا عقول عندهم، واشتهر في نجد السحرة والكهنة، وسؤالهم وتصديقهم وليس هناك منكر إلا من شاء الله، وغلب على الناس الإقبال على الدنيا وشهواتها، وقل القائم لله والناصر لدين الله، وهكذا في الحرمين الشريفين، وفي اليمن اشتهر في ذلك الشرك، وبناء القباب على القبور، ودعاء الأولياء والاستغاثة بهم، وفي اليمن من ذلك الشيء الكثير، وفي بلدان نجد من ذلك ما لا يحصى، ما بين قبر وما بين غار، وبين شجرة وبين مجذوب ومجنون يدعى من دون الله ويستغاث به مع الله، وكذلك مما عرف في نجد واشتهر دعاء الجن والاستغاثة بهم، وذبح الذبائح لهم، وجعلها في الزوايا من البيوت رجاء نجدتهم، وخوف شرهم، فلما رأى الشيخ الإمام هذا الشرك وظهوره في الناس، وعدم وجود منكر لذلك، وقائم بالدعوة إلى الله في ذلك، شمر عن ساعد الجد، وصبر على الدعوة، وعرف أنه لا بد من جهاد، وصبر وتحمل للأذى، فجد في التعليم والتوجيه والإرشاد وهو في العيينة، وفي مكاتبة العلماء في ذلك، والمذاكرة معهم رجاء أن يقوموا معه في نصر دين الله، والمجاهدة في هذا الشرك وهذه الخرافات، فأجاب دعوته كثيرون من علماء نجد وعلماء الحرمين، وعلماء اليمن، وغيرهم وكتبوا إليه بالموافقة
وقصد مستقيم ونصر للحق، وهناك قبور أخرى منها قبر يقال إنه قبر ضرار بن الأزور، كانت عليه قبة هدمت أيضا، وهناك مشاهد أخرى أزالها الله عز وجل، وكانت هناك غيران وأشجار تعبد من دون الله جل وعلا، فأزيلت وقضي عليها وحذر الناس عنها.
ردحذفوالمقصود أن الشيخ استمر رحمة الله عليه على الدعوة، قولاً وعملاً كما تقدم، ثم إن الشيخ أتته امرأة، واعترفت عنده بالزنا عدة مرات، وسأل عن عقلها فقيل إنها عاقلة ولا بأس بها، فلما صممت على الاعتراف، ولم ترجع عن اعترافها، ولم تدع إكراها ولا شبهة وكانت محصنة، أمر الشيخ رحمة الله عليه بأن ترجم فرجمت بأمره، حالة كونه قاضيا بالعيينة، فاشتهر أمره بعد ذلك بهدم القبة، وبرجم المرأة، وبالدعوة العظيمة إلى الله، وهجرة المهاجرين إلى العيينة.
وبلغ أمير الأحساء وتوابعها من بني خالد سليمان ابن عريعر الخالدي أمر الشيخ، وأنه يدعو إلى الله، وأنه يهدم القباب، وأنه يقيم الحدود، فعظم على هذا البدوي أمر الشيخ، لأن من عادة البادية -إلا من هدى الله- الإقدام على الظلم، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وانتهاك الحرمات، فخاف أن هذا الشيخ يعظم أمره، ويزيل سلطان الأمير البدوي، فكتب إلى عثمان يتوعده، ويأمره أن يقتل هذا المطوع الذي عنده في العيينة، وقال: إن المطوع الذي عندكم بلغنا عنه كذا، وكذا!! فإما أن تقتله، وإما أن نقطع عنك خراجك الذي عندنا.!! وكان عنده للأمير عثمان خراج من الذهب، فعظم على عثمان أمر هذا الأمير، وخاف إن عصاه أن يقطع عنه خراجه أو يحاربه، فقال للشيخ: إن هذا الأمير كتب إلينا كذا وكذا، وإنه لا يحسن منا أن نقتلك، وإنا نخاف هذا الأمير ولا نستطيع محاربته، فإذا رأيت أن تخرج عنا فعلت، فقال الشيخ: إن الذي أدعو إليه هو دين الله، وتحقيق كلمة لا إله إلا الله وتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، فمن تمسك بهذا الدين، ونصره وصدق في ذلك نصره الله وأيده وولاه على بلاد أعدائه، فإن صبرت واستقمت، وقبلت هذا الخير فأبشر، فسينصرك الله ويحميك من هذا البدوي وغيره، وسوف يوليك الله بلاده وعشيرته. فقال: أيها الشيخ إنا لا نستطيع محاربته، ولا صبر لنا على مخالفته. فخرج الشيخ عند ذلك وتحول من العيينة إلى بلاد الدرعية، جاء إليها ماشياً فيما ذكروا، حتى وصل إليها في آخر النهار، وقد خرج من العيينة في أول النهار مشيا على الأقدام، لم يرحله عثمان، فدخل على شخص من خيارها في أعلى البلد يقال له محمد بن سويلم العريني، فنزل عليه ويقال إن هذا الرجل خاف من نزوله عليه، وضاقت به الأرض بما رحبت، وخاف من أمير الدرعية محمد بن سعود فطمأنه الشيخ وقال له: أبشر بخير وهذا الذي أدعو الناس إليه دين الله، وسوف يظهره الله. فبلغ محمد بن سعود خبر الشيخ محمد، ويقال إن الذي أخبره زوجته، جاء إليها بعض الصالحين، وقال لها: أخبري محمدا بهذا الرجل، وشجعيه على قبول دعوته، وحرضيه على مؤازرته ومساعدته، وكانت امرأة صالحة طيبة، فلما دخل عليها محمد بن سعود أمير الدرعية وملحقاتها، قالت له: أبشر بهذه الغنيمة العظيمة! هذه غنيمة ساقها الله إليك، رجل داعية يدعو إلى دين الله، يدعو إلى كتاب الله، يدعو إلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام يا لها من غنيمة! بادر بقبوله وبادر بنصرته، ولا تقف في ذلك أبدا، فقبل الأمير مشورتها، ثم تردد هل يذهب إليه أم يدعوه إليه؟! فأشير عليه، ويقال إن المرأة أيضا هي التي أشارت عليه مع جماعة من الصالحين، وقالوا له: لا ينبغي أن تدعوه إليك، بل ينبغي أن تقصده في منزله وأن تقصده أنت
وأن تعظم العلم والداعي إلى الخير، فأجاب إلى ذلك لما كتب الله له من السعادة والخير رحمة الله عليه، وأكرم مثواه، فذهب إلى الشيخ في بيت محمد بن سويلم وقصده وسلم عليه وتحدث معه، وقال له يا شيخ محمد: أبشر بالنصرة وأبشر بالأمن وأبشر بالمساعدة فقال له الشيخ: وأنت أبشر بالنصرة أيضا والتمكين والعاقبة الحميدة، هذا دين الله من نصره نصره الله، ومن أيده أيده الله، وسوف تجد آثار ذلك سريعا، فقال: يا شيخ سأبايعك على دين الله ورسوله، وعلى الجهاد في سبيل الله، ولكنني أخشى إذا أيدناك ونصرناك وأظهرك الله على أعداء الإسلام أن تبتغي غير أرضنا، وأن تنتقل عنا إلى أرض أخرى، فقال: لا؛ أبايعك على هذا، أبايعك على أن الدم بالدم، والهدم بالهدم، لا أخرج عن بلادك أبداً، فبايعه على النصرة، وعلى البقاء في البلد، وأنه يبقى عند الأمير يساعده، ويجاهد معه في سبيل الله، حتى يظهر دين الله، وتمت البيعة على ذلك. وتوافد الناس إلى الدرعية من كل مكان، من العيينة، وعرقة، ومنفوحة والرياض وغير ذلك من البلدان المجاورة، ولم تزل الدرعية موضع هجرة يهاجر إليها الناس من كل مكان، وتسامع الناس بأخبار الشيخ، ودروسه في الدرعية ودعوته إلى الله وإرشاده إليه، فأتوا زرافات ووحدانا، فأقام الشيخ بالدرعية معظما مؤيدا محبوبا منصورا، ورتب الدروس في الدرعية في العقائد، وفي القرآن الكريم، وفي التفسير، وفي الفقه، والحديث، ومصطلحه، والعلوم العربية، والتاريخية، وغير ذلك من العلوم النافعة.
ردحذفوتوافد الناس عليه من كل مكان، وتعلم عليه في الدرعية الشباب وغيرهم، ورتب للناس دروسا كثيرة للعامة والخاصة، ونشر العلم في الدرعية، واستمر على الدعوة، ثم بدأ بالجهاد وكاتب الناس إلى الدخول في هذا الميدان، وإزالة الشرك الذي في بلادهم، وبدأ بأهل نجد، وكاتب أمراءها وعلماءها، كاتب علماء الرياض، وأميرها دهام بن دواس، وكاتب علماء الخرج وأمراءها، وعلماء بلاد الجنوب والقصيم، وحائل، والوشم، وسدير، وغير ذلك. ولم يزل يكاتبهم ويكاتب علماءهم وأمراءهم، وهكذا علماء الأحساء وعلماء الحرمين الشريفين، وهكذا علماء الخارج في مصر، والشام والعراق، والهند، واليمن، وغير ذلك، ولم يزل يكاتب الناس ويقيم الحجج، ويذكر الناس ما وقع فيه أكثر الخلق من الشرك والبدع، وليس معنى هذا أنه ليس هناك أنصار للدين، بل هناك أنصار، والله جل وعلا ضمن لهذا الدين أن لا بد له من ناصر
ولا تزال طائفة في هذه الأمة على الحق منصورة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فهناك أنصار للحق في أقطار كثيرة، ولكن الحديث الآن عن نجد، فكان فيها من الشر والفساد والشرك والخرافات ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، مع أن فيها علماء فيهم خير، ولكن لم يقدر لهم أن ينشطوا في الدعوة وأن يقوموا بها كما ينبغي.
ردحذفوهناك أيضا في اليمن وغير اليمن دعاة إلى الحق، وأنصار قد عرفوا هذا الشرك وهذه الخرافات، ولكن لم يقدر الله لدعوتهم من النجاح ما قدر لدعوة الشيخ محمد لأسباب كثيرة، منها: عدم تيسر الناصر المساعد لهم، ومنها: عدم الصبر لكثير من الدعاة، وتحمل الأذى في سبيل الله.
ومنها: قلة علوم بعض الدعاة التي يستطيع بها أن يوجه الناس بالأساليب المناسبة، والعبارات اللائقة، والحكمة والموعظة الحسنة. ومنها: أسباب أخرى غير هذه الأسباب، وبسبب هذا المكاتبات الكثيرة والرسائل والجهاد، اشتهر أمر الشيخ، وظهر أمر الدعوة، واتصلت رسائله بالعلماء في داخل الجزيرة وفي خارجها، وتأثر بدعوته جم غفير من الناس، في الهند وفي أندونيسيا وفي أفغانستان وفي أفريقيا وفي المغرب وهكذا في مصر، والشام والعراق، وكان هناك دعاة كثيرون، عندهم معرفة بالحق والدعوة إليه فلما بلغتهم دعوة الشيخ زاد نشاطهم وزادت قوتهم، واشتهروا بالدعوة، ولم تزل دعوة الشيخ تشتهر وتظهر بين العالم الإسلامي وغيره، ثم في هذا العصر الأخير طبعت كتبه، ورسائله، وكتب أبنائه وأحفاده، وأنصاره، وأعوانه من علماء المسلمين في الجزيرة وخارجها، وكذلك طبعت الكتب المؤلفة في دعوته، وترجمته، وأحوال أنصاره، حتى اشتهرت بين الناس في غالب الأقطار والأمصار، ومن المعلوم أن لكل نعمة حاسدا، وأن لكل داع أعداء كثيرين كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[2]، فلما اشتهر الشيخ بالدعوة، وكتب الكتابات الكثيرة، وألف المؤلفات القيمة، ونشرها في الناس، وكاتبه العلماء، ظهر جماعة كثيرون من حساده ومن مخالفيه، وظهر أيضا أعداء آخرون.
وصار أعداؤه وخصومه قسمين: قسم عادوه باسم العلم والدين، وقسم: عادوه باسم السياسة لكن تستروا بالعلم، وتستروا باسم الدين، واستغلوا عداوة من عاداه من العلماء، الذين أظهروا عداوته وقالوا إنه على غير الحق، وإنه كيت وكيت، والشيخ رحمة الله عليه مستمر في الدعوة يزيل الشبه، ويوضح الدليل، ويرشد الناس إلى الحقائق على ما هي عليه من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وطورا يقولون: إنه من الخوارج، وتارة يقولون: يخرق الإجماع ويدعي الاجتهاد المطلق، ولا يبالي بمن قبله من العلماء والفقهاء وتارة يرمونه بأشياء أخرى، وما ذاك إلا من قلة العلم من طائفة منهم، وطائفة أخرى قلدت غيرها، واعتمدت على غيرها، وطائفة أخرى خافت على مراكزها فعادته سياسة، وتسترت باسم الإسلام والدين، واعتمدت على أقوال المخرفين والمضللين.
ردحذفوالخصوم في الحقيقة ثلاثة أقسام: علماء مخرفون يرون الحق باطلا والباطل حقا، ويعتقدون أن البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، ودعاءها من دون الله والاستغاثة بها وما أشبه ذلك دينٌ وهدى، ويعتقدون أن من أنكر ذلك فقد أبغض الصالحين، وأبغض الأولياء، وهو عدو يجب جهاده.
وقسم آخر: من المنسوبين للعلم جهلوا حقيقة هذا الرجل، ولم يعرفوا عنه الحق الذي دعا إليه، بل قلدوا غيرهم، وصدقوا ما قيل فيه من الخرافيين المضللين، وظنوا أنهم على هدى فيما نسبوه إليه من بغض الأولياء والأنبياء، ومن معاداتهم وإنكار كراماتهم. فذموا الشيخ، وعابوا دعوته ونفروا عنه.
ردحذفوقسم آخر: خافوا على المناصب والمراتب، فعادوه لئلا تمتد أيدي أنصار الدعوة الإسلامية إليهم، فتزيلهم عن مراكزهم، وتستولي على بلادهم، واستمرت الحرب الكلامية والمجادلات والمساجلات بين الشيخ وخصومه، يكاتبهم ويكاتبونه، ويجادلهم ويرد عليهم ويردون عليه، وهكذا جرى بين أبنائه وأحفاده وأنصاره، وبين خصوم الدعوة، حتى اجتمع من ذلك رسائل كثيرة، وردود جمة، وقد جمعت هذه الرسائل والفتاوى والردود فبلغت مجلدات، وقد طبع أكثرها والحمد لله، واستمر الشيخ في الدعوة والجهاد، وساعده الأمير محمد بن سعود أمير الدرعية، وجد الأسرة السعودية على ذلك؛ ورفعت راية الجهاد، وبدأ الجهاد من عام 1158هـ، بدأ الجهاد بالسيف وبالكلام، وبالحجة والبرهان، ثم استمرت الدعوة مع الجهاد بالسيف، ومعلوم أن الداعي إلى الله عز وجل إذا لم يكن لديه قوة تنصر الحق، وتنفذه فسرعان ما تخبو دعوته وتنطفئ شهرته، ثم يقل أنصاره، ومعلوم ما للسلاح من الأثر العظيم في نشر الدعوة، وقمع المعارضين، ونصر الحق وقمع الباطل، ولقد صدق الله العظيم في قوله عز وجل، وهو الصادق سبحانه في كل ما يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[3] فبين سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل بالبينات، وهي الحجج والبراهين الساطعة، التي يوضح الله بها الحق، ويدفع بها الباطل، وأنزل مع الرسل الكتاب الذي فيه البيان، والهدى والإيضاح، وأنزل معهم الميزان، وهو العدل الذي ينصف به المظلوم من الظالم، ويقام به الحق وينشر به الهدى، ويعامل الناس على ضوئه بالحق والقسط، وأنزل الحديد فيه بأس شديد، فيه قوة، وردع وزجر لمن خالف الحق، فالحديد لمن لم تنفع فيه الحجة، وتؤثر فيه البينة، فهو القامع.
ولقد أحسن من قال في مثل هذا:
ردحذفوما هو إلا الوحي أو حد مرهف *** تزيل ظباه أخدعي كل مائل
فهذا دواء الداء من كل جاهل *** وهذا دواء الداء من كل عادل
فالعاقل ذو الفطرة السليمة، ينتفع بالبينة، ويقبل الحق بدليله، أما الظالم التابع لهواه فلا يردعه إلا السيف، فجد الشيخ رحمه الله في الدعوة والجهاد، وساعده أنصاره من آل سعود طيب الله ثراهم على ذلك، واستمروا في الجهاد والدعوة من عام 1158 هـ إلى أن توفي الشيخ في عام 1206 هـ فاستمر الجهاد والدعوة قريباً من خمسين عاماً، جهاد، ودعوة ونضال، وجدال في الحق، وإيضاح لما قال الله ورسوله، ودعوة إلى دين الله، وإرشاد إلى ما شرعه رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى التزم الناس بالطاعة، ودخلوا في دين الله، وهدموا ما عندهم من القباب، وأزالوا ما لديهم من المساجد المبنية على القبور، وحكموا الشريعة، ودانوا بها وتركوا ما كانوا عليه من تحكيم سوالف الآباء والأجداد، وقوانينهم ورجعوا إلى الحق وعمرت المساجد بالصلوات، وحلقات العلم وأديت الزكوات، وصام الناس رمضان كما شرع الله عز وجل، وأُمِر بالمعروف، ونُهي عن المنكر، وساد الأمن في الأمصار والقرى والطرق والبوادي، ووقف البادية عند حدهم، ودخلوا في دين الله وقبلوا الحق، ونشر الشيخ فيهم الدعوة، وأرسل الشيخ إليهم المرشدين، والدعاة في الصحراء والبوادي، كما أرسل المعلمين، والمرشدين، والقضاة إلى البلدان والقرى، وعم هذا الخير العظيم والهدى المستبين نجدا كلها، وانتشر فيها الحق، وظهر فيها دين الله عز وجل.
ثم بعد وفاة الشيخ رحمة الله عليه، استمر أبناؤه وأحفاده، وتلاميذه، وأنصاره، في الدعوة والجهاد، وعلى رأس أبنائه الشيخ الإمام عبد الله بن محمد، والشيخ حسين بن محمد، والشيخ علي بن محمد، والشيخ إبراهيم بن محمد، ومن أحفاده الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ علي بن حسين والشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد، وجماعة آخرون، ومن تلاميذه أيضا الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وجمع غفير من علماء الدرعية، وغيرهم استمروا في الدعوة والجهاد ونشروا دين الله تعالى، وكتابة الرسائل وتأليف المؤلفات، وجهاد أعداء الدين، وليس بين هؤلاء الدعاة وخصومهم شيء، إلا أن هؤلاء دعوا إلى توحيد الله وإخلاص العبادة لله عز وجل، والاستقامة على ذلك، وهدم المساجد، والقباب التي على القبور، ودعوا إلى تحكيم الشريعة والاستقامة عليها، ودعوا إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود الشرعية، هذه أسباب النزاع بينهم وبين الناس. والخلاصة: أنهم أرشدوا إلى توحيد الله، وأمروهم بذلك، وحذروا الناس من الشرك بالله، ومن وسائله وذرائعه، وألزموا الناس بالشريعة الإسلامية، ومن أبى واستمر على الشرك بعد الدعوة والبيان، والإيضاح والحجة، جاهدوه في الله عز وجل، وقصدوه في بلاده حتى يخضع للحق، وينيب إليه، أو يلزموه به بالقوة والسيف حتى يخضع هو وأهل بلده إلى ذلك، وكذلك حذروا الناس من البدع والخرافات، التي ما أنزل الله بها من سلطان، كالبناء على القبور، واتخاذ القباب عليها والتحاكم إلى الطواغيت، وسؤال السحرة والكهنة، وتصديقهم وغير ذلك، فأزال الله ذلك على يدي الشيخ وأنصاره رحمة الله عليهم جميعاً.
ردحذفوعمرت المساجد بتدريس الكتاب العظيم والسنة المطهرة، والتأريخ الإسلامي، والعلوم العربية النافعة، وصار الناس في مذاكرة، وعلم، وهدى، ودعوة، وإرشاد، وآخرون منهم فيما يتعلق بدنياهم من الزراعة والصناعة وغير ذلك، علم، وعمل، ودعوة، وإرشاد، ودنيا ودين، فهو يتعلم ويذاكر، ومع ذلك يعمل في حقله الزراعي، أو في صناعته أو تجارته وغير ذلك، فتارة لدينه، وتارة لدنياه، دعاة إلى الله وموجهون إلى سبيله، ومع ذلك يشتغلون بأنواع الصناعة الرائجة في بلادهم، ويحصلون من ذلك على ما يغنيهم عن خارج بلادهم. وبعد فراغ الدعاة وآل سعود من نجد امتدت دعوتهم إلى الحرمين، وجنوب الجزيرة، وكاتبوا علماء الحرمين سابقا ولاحقا، فلما لم تجد الدعوة واستمر أهل الحرمين على ما هم عليه من تعظيم القباب، واتخاذها على القبور، ووجود الشرك عندها، والسؤال لأربابها، سار الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بعد وفاة الشيخ بإحدى عشرة سنة متوجها إلى جهة الحجاز، ونازل أهل الطائف ثم قصد أهل مكة، وكان أهل الطائف قد توجه إليهم قبل سعود الأمير عثمان بن عبد الرحمن المضايفي، ونازلهم بقوة أرسلها إليه الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد أمير الدرعية بقوة عظيمة من أهل نجد وغيرهم، وساعدوه حتى استولى على الطائف، وأخرج منها أمراء الشريف، وأظهر فيه الدعوة إلى الله وأرشد إلى الحق، ونهى فيها عن الشرك وعبادة ابن عباس وغيره مما كان يعبده هناك الجهال، والسفهاء من أهل الطائف. ثم توجه الأمير سعود عن أمر أبيه عبد العزيز إلى جهة الحجاز، وجمعت الجيوش حول مكة.
فلما عرف شريفها أنه لا بد من التسليم أو الفرار فر إلى جدة، ودخل سعود ومن معه من المسلمين البلاد من غير قتال، واستولوا على مكة في فجر يوم السبت ثامن محرم من عام 1218 هـ وأظهروا الدعوة إلى دين الله وهدموا ما فيها من القباب التي بنيت على قبر خديجة وغيره، فأزالوا القباب كلها، وأظهروا فيها الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، وعينوا فيها العلماء المدرسين، والموجهين، والمرشدين، والقضاة الحاكمين بالشريعة، ثم بعد مدة وجيزة فتحت المدينة، واستولى آل سعود على المدينة في عام 1220 هـ بعد مكة بنحو سنتين، واستمر الحرمان في ولاية آل سعود، وعينوا فيها الموجهين والمرشدين، وأظهروا في البلاد العدل وتحكيم الشريعة، والإحسان إلى أهلها ولا سيما فقراؤهم ومحاويجهم فأحسنوا إليهم بالأموال، وواسوهم وعلموهم كتاب الله،
وأرشدوهم إلى الخير، وعظموا العلماء وشجعوهم على التعليم والإرشاد، ولم يزل الحرمان الشريفان تحت ولاية آل سعود إلى عام 1226 هـ، ثم بدأت الجيوش المصرية والتركية تتوجه إلى الحجاز، لجهاد آل سعود وإخراجهم من الحرمين، لأسباب كثيرة تقدم بعضها، وهذه الأسباب كما تقدم هي أن أعداءهم، وحسادهم، والمخرفين الذين ليس لهم بصيرة، وبعض السياسيين الذين أرادوا إخماد هذه الدعوة وخافوا منها أن تزيل مراكزهم، وأن تقضي على أطماعهم، كذبوا على الشيخ وأتباعه وأنصاره، وقالوا: إنهم يبغضون الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنهم يبغضون الأولياء، وينكرون كراماتهم وقالوا إنهم أيضا يقولون كيت وكيت، مما يزعمون أنهم يتنقصون به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وصدق هذا بعض الجهال، وبعض المغرضين، وجعلوه سلما للنيل منهم والجهاد لهم، وتشجيع الأتراك والمصريين على حربهم، فجرى ما جرى من الفتن والقتال، وصار القتال بين الجنود المصرية والتركية ومن معهم، وبين آل سعود في نجد، والحجاز، سجالا مدة طويلة من عام 1226 هـ إلى عام 1233 هـ سبع سنين كلها قتال ونضال بين قوى الحق وقوى الباطل.
ردحذفوالخلاصة أن هذا هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، إنما قام لإظهار دين الله، وإرشاد الناس إلى توحيد الله، وإنكار ما أدخل الناس فيه من البدع والخرافات، وقام أيضا لإلزام الناس بالحق، وزجرهم عن الباطل، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر.
هذه خلاصة دعوته رحمة الله تعالى عليه، وهو في العقيدة على طريقة السلف الصالح يؤمن بالله وبأسمائه وصفاته، ويؤمن بملائكته، ورسله، وكتبه، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره على طريقة أئمة الإسلام في توحيد الله، وإخلاص العبادة له جل وعلا، وفي الإيمان بأسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بالله سبحانه، لا يعطل صفات الله، ولا يشبه الله بخلقه، وفي الإيمان بالبعث والنشور، والجزاء والحساب، والجنة والنار، وغير ذلك ويقول في الإيمان ما قاله السلف إنه قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كل هذا من عقيدته رحمة الله عليه، فهو على طريقتهم وعلى عقيدتهم، قولا وعملا، لم يخرج عن طريقتهم تلك البتة، وليس له في ذلك مذهب خاص، ولا طريقة خاصة، بل هو على طريقة السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم بإحسان. رضي الله عن الجميع.
وإنما أظهر ذلك في نجد وما حولها، ودعا إلى ذلك، ثم جاهد عليه من أباه، وعانده، وقاتلهم، حتى ظهر دين الله وانتصر الحق، وكذلك هو على ما عليه المسلمون من الدعوة إلى الله، وإنكار الباطل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولكن الشيخ وأنصاره يدعون الناس إلى الحق، ويلزمونهم به، وينهونهم عن الباطل، وينكرونه عليهم، ويزجرونهم عنه حتى يتركوه، وكذلك جد في إنكار البدع والخرافات حتى أزالها الله سبحانه بسبب دعوته، فالأسباب الثلاثة المتقدمة آنفا هي أسباب العداوة والنزاع بينه وبين الناس وهي:
ردحذفأولا: إنكار الشرك والدعوة إلى التوحيد الخالص. ثانيا: إنكار البدع، والخرافات، كالبناء على القبور واتخاذها مساجد ونحو ذلك كالموالد والطرق التي أحدثتها طوائف المتصوفة. ثالثا: إنه يأمر الناس بالمعروف، ويلزمهم به بالقوة فمن أبى المعروف الذي أوجبه الله عليه، ألزم به وعزر عليه إذا تركه، وينهى الناس عن المنكرات، ويزجرهم عنها، ويقيم حدودها، ويلزم الناس بالحق، ويزجرهم عن الباطل وبذلك ظهر الحق وانتشر، وكبت الباطل وانقمع، وصار الناس في سيرة حسنة، ومنهج قويم في أسواقهم، وفي مساجدهم، وفي سائر أحوالهم.
لا تعرف البدع بينهم، ولا يوجد في بلادهم الشرك، ولا تظهر المنكرات بينهم. بل من شاهد بلادهم وشاهد أحوالهم وما هم عليه ذكر حال السلف الصالح وما كانوا عليه زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وزمن أصحابه، وزمن أتباعه بإحسان في القرون المفضلة رحمة الله عليهم. فالقوم ساروا سيرتهم. ونهجوا منهجهم، وصبروا على ذلك، وجدوا فيه، وجاهدوا عليه، فلما حصل بعض التغيير في آخر الزمان بعد وفاة الشيخ محمد بمدة طويلة، ووفاة كثير من أبنائه رحمة الله عليهم وكثير من أنصاره حصل بعض التغيير جاء الابتلاء وجاء الامتحان بالدولة التركية، والدولة المصرية، مصداق قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[4] نسأل الله عز وجل أن يجعل ما أصابهم تكفيرا وتمحيصا من الذنوب، ورفعة وشهادة لمن قتل منهم رضي الله عنهم ورحمهم. ولم تزل دعوتهم بحمد الله قائمة منتشرة إلى يومنا هذا فإن الجنود المصرية لما عثت في نجد، وقتلت من قتلت، وخربت ما خربت، لم يمض على ذلك إلا سنوات قليلة ثم قامت الدعوة بعد ذلك وانتشرت، ونهض بالدعوة بعد ذلك بنحو خمس سنين الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود رحمة الله عليه فنشر الدعوة في نجد وما حولها، وانتشر العلماء في نجد وأخرج من كان هناك من الأتراك، والمصريين، أخرجهم من نجد وقراها، وبلدانها، وانتشرت الدعوة بعد ذلك في نجد في عام 1240
وكان تخريب الدرعية والقضاء على دولة آل سعود في عام 1233 هـ. فمكث الناس في نجد في فوضى، وقتال، وفتن نحو خمس سنين من أربع وثلاثين إلى عام 1239 هـ ثم في عام أربعين بعد المائتين وألف اجتمع شمل المسلمين في نجد على الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، وظهر الحق وكتب العلماء الرسائل، إلى القرى والبلدان، وشجعوا الناس ودعوهم إلى دين الله وانطفأت الفتن التي بينهم بعد الحروب الطويلة التي حصلت على أيدي المصريين وأعوانهم، وهكذا انطفأت الحروب والفتن التي وقعت بينهم على إثر تلك الحروب وخمدت نارها، وظهر دين الله، واشتغل الناس بعد ذلك بالتعليم والإرشاد، والدعوة، والتوجيه، حتى عادت المياه إلى مجاريها، وعاد الناس إلى أحوالهم، وما كانوا عليه في عهد الشيخ، وعهد تلامذته، وأبنائه، وأنصاره، رضي الله عن الجميع ورحمهم، واستمرت الدعوة من عام 1240 هـ إلى يومنا هذا بحمد الله، ولم يزل يخلف آل سعود بعضهم بعضا، وآل الشيخ وعلماء نجد بعضهم بعضا، فآل سعود يخلف بعضهم بعضا في الإمامة والدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله.
ردحذفوهكذا العلماء يخلف بعضهم بعضا في الدعوة إلى الله والإرشاد إليه، والتوجيه إلى الحق. إلا أن الحرمين الشريفين بقيا مفصولين عن الدولة السعودية دهراً طويلاً ثم عادا إليهم في عام 1343 هـ واستولى على الحرمين الشريفين الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد ابن سعود رحمة الله عليه، ولم يزالا بحمد الله تحت ولاية هذه الدولة إلى يومنا هذا.
فلله الحمد، ونسأل الله عز وجل أن يصلح البقية الباقية من آل سعود، ومن آل الشيخ، ومن علماء المسلمين جميعا في هذه البلاد وغيرها وأن يوفقهم جميعا لما يرضيه، أن يصلح علماء المسلمين أينما كانوا، وأن ينصر بالجميع الحق، ويخذل بهم الباطل، وأن يوفق دعاة الهدى أينما كانوا للقيام بما أوجب الله عليهم، وأن يهدينا وإياهم صراطه المستقيم، وأن يعمر الحرمين الشريفين، وملحقاتهما، وسائر بلاد المسلمين بالهدى، ودين الحق، وبتعظيم كتاب الله، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وأن يمن على الجميع بالفقه فيهما، والتمسك بهما، والصبر على ذلك، والثبات عليه، والتحاكم إليهما، حتى يلقوا ربهم عز وجل، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. وهذا آخر ما تيسر بيانه، والتعريف به، من حال الشيخ، ودعوته وأنصاره، وخصومه، والله المستعان، وعليه الاتكال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله، وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه والحمد لله رب العالمين.