بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
اعلم أخي في الله أن هذه المسألة ككثير من تلك التي تخرج من أذهان الوهابية لا نرى من ورائها طائلا يدعونا لنيله ، وذلك لأن مقصد الوهابية من هذا الأمر هو اثبات أن الإمام علي عليه السلام كان راضيا عن عمر بن الخطاب بدعوى أن الإمام علي عليه السلام زوج ابنته لعمر بن الخطاب !
ومن الواضح أن هذه المسألة سواء صحت أم لا ، لا تنتج النتيجة التي يسعى الوهابية لثباتها ، فكم من ظرف قاهر ألجأ الأب لتزويج ابنته لمن لا يرضى دينه أو خلقه ؟! ولنا في القرآن الكريم خير دليل ، فإن الله عز وجل قد حكى لنا ما قاله لوط عليه السلام لقومه إذ دعاهم ليتزوجوا بناته حيث قال (( قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا قد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد )) هود/78-79.
وكلنا يعلم ما أخلاق أولئك الكفرة الفجرة !
وعليه نقول لو لم تأتنا الأخبار ولم نعلم مساوئ قوم لوط ثم جاءنا خبر وحيد يقول ( إن لوطا عليه السلام زوج بناته من قومه ) فهل يستدل به على أن قوم لوط مؤمنون وممن يتطهرون حيث زوجهم لوط بناته ؟!
بالطبع لا ، لما قلناه سابقا أن الظروف قد تفرض على الإنسان أن يضحي بالمهم لأجل الأهم ، فالموقف الصحيح من مثل هذه الخبر عدم الجزم برضى ولي الأمر بـهذا الزوج .
وهذا كله لو لم تأتنا النصوص الأخرى التي تكشف عن حقيقة هذا الزوج وبيان ما عليه من المساوئ ، وإلا لجزمنا بأن ولي الأمر –المعصوم- لا يرتضيه وإنما زوجه لأمر قاهر ، ومثل هذه الأدلة والنصوص كما هي متوفرة في قصة قوم لوط كذلك متوفرة عندنا في تقييم شخصية عمر بن الخطاب ، بل هي متوفرة أيضا عنه في كتب الفريقين لا فقط عند الشيعة .
وهنا قد يرد اشكال مفاده : لعل ولي الأمر -والفرض هنا هو الإمام علي عليه السلام- قد تجاوز عن مساوئ عمر لذا زوجه ابنته فحينها لا يصح الاستدلال بأفعال عمر بن الخطاب السابقة على انعدام المحبة بينهما ! أي أن الإمام علي عليه السلام قد تجاوز عن كل ما سبق فزوجه ابنته !
فنقول إن هذا وإن كان بعيدا إلا أن العقل يحتمله ، وهذا البعيد يبقى بعيدا لو لم تأت الروايات الصريحة الصحيحة التي تحكي لنا موقف الإمام علي عليه السلام ورفضه لهذا الزواج ، فحيث جاءت حينها يُنسف هذا الاحتمال البعيد نسفا ، ولننقل رواية الكافي الشريف :
"عن أبي عبد الله عليه السلام قال : لما خطب إليه –أي خطب عمر أم كلثوم إلى الإمام علي- قال له أمير المؤمنين : إنـها صبية . قال : فلقى –عمر- العباس فقال له : مالي أبي بأس ؟ قال : وماذاك ؟ قال : خطبت إلى ابن اخيك فردني أما والله لاعورن زمزم ولا أدع لكم مكرمة إلا هدمتها ولأقيمن عليه شاهدين بأنه سرق ولاقطعن يمينه . فأتاه العباس فأخبره –أخبر الإمام علي- وسأله أن يجعل الامر إليه فجعله إليه ".
هذه الرواية الصحيحة تنص على أن الإمام علي عليه السلام لم يرتض عمر بن الخطاب كزوج لابنته ولم يرغب بـهذا الزواج ، فبعد أن علل رفضه بصغرها ، لم يقتنع عمر بـهذا الجواب وعلم أن الإمام علي عليه السلام رده ورفضه كزوج لابنته ، فذهب عمر للعباس وقال له إن الإمام علي قد رده فهدد عمر العباس وتوعد الإمام علي عليه السلام بالأمور العظيمة السابقة التي تدل على أن الإمام علي عليه السلام كان صلبا في رفضه لشخصية عمر كزوج لابنته ولم يكن ليتزحزح عنه بأي طرق ودية ، ولهذا هدد عمر عليا عليه السلام بقطع اليد واتـهامه بالسرقة إن لم يفعل وفي هذا خطر عظيم لا فقط على الإمام عليه السلام وإنما على الإسلام ككل ، إذ أن عمر تحت يديه الدولة وتحت سلطته آلاف الجنود ويستطيع أن ينفذ كل ما يريده بالقوة ، وبعدها سيصدق الناس هذه التهمة وتـهتك شخصية الإمام المعصوم في نظرهم وسينجر أثر هذا الأمر إلى يومنا ، وهذه مفسدة عظيمة وثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ، ونقول هنا :
لو قبل الإمام شخصية عمر مع هذه الضغوط لكان معذورا مأجورا لصبره وتقديمه الأهم على المهم ، ومع هذا لا يدل هذا القبول على أنه قد ارتضاه كزوج لابنته بل يدل على عدم رضاه ، فكيف لو علمنا أنه لم يقبل شخصية عمر وإنما أوكل أمرها للعباس بطلب من العباس بعدما خاف هذا الأخير ما سيترتب على رفض الإمام علي عليه السلام لهذا الزواج ، فزوجها العباس لعمر ولم يزوجها علي عليه السلام له مع أن العذر معه لو زوجها الإمام علي لعمر بعد أن هدده عمر بذاك التهديد الذي يثلم الإسلام !!
فبعد هذا أية محبة ومودة يمكن تصورها بين الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وبين عمر بن الخطاب ؟!!
ولأن هذا الزواج –المفروض- قد تحقق بالقهر والغلبة أطلقت عليه رواية أخرى بأنه غصب كما في رواية الكافي الشريف :
" عن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه السلام في تزويج أم كلثوم فقال : إن ذلك فرج غصبناه ".
وهذا لا يدل على أن الزواج فاسد شرعا ، فكم من زواج صحيح – تمت فيه الشروط كإذن الوكيل وهو العباس على الفرض وكون الزوج قد تشهد الشهادتين- لم يرض به ولي الفتاة للظروف القاهرة التي تعرض لها .
وهذا الأمر له شواهد من روايات أهل السنة فإنها تنص على أن الإمام علي عليه السلام لم يوافق على تزويج عمر بابنته وماطل فيه واعتذر عنه حتى علم الصحابة بأمر عدم رضى الإمام علي بـهذا الزوج .
مصنف عبد الرزاق ج6ص163ح10352 :" عن أبي جعفر قال خطب عمر إلى علي ابنته فقال : إنـها صغيرة ! فقيل لعمر : إنما يريد بذلك منعها ، قال فكلمه ، فقال علي أبعث بـها إليك فإن رضيت فهي امرأتك قال فبعث بـها إليه قال فذهب عمر فكشف عن ساقها (!!) فقالت أرسل فلولا أنك أمير المؤمنين لصككت عنقك ".
ح10353 " عبد الرزاق عن ابن جريج قال سمعت الأعمش يقول : خطب عمر بن الخطاب إلى علي ابنته فقال ما بك إلا منعها ".
وهاتان الروايات تدلان على أن عمر بن الخطاب وأصحابه كانوا يعلمون أن قول الإمام علي عليه السلام ( إنها صغيرة ) تعبير عن رفضه لشخص عمر ، لذلك قال عمر ( ما بك إلا منعها ) وقيل له ( إنما يريد بذلك منعها ) فموقف الإمام علي عليه السلام كان معروفا معلوما عندهم جميعا بأنه لا يرتضي شخص عمر بن الخطاب زوجا لابنته أم كلثوم .
ولا يحتمل ميل أم كلثوم لهذا الزواج لأنـها كنت صغيرة جدا ، كما هي مفاد الروايات السابقة وصرحت بذلك رواية مصنف عبد الرزاق ج6ص162 ح10354 : "عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة قال تزوج عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وهي جارية تلعب مع الجواري ".
وهناك رواية من طرق أهل السنة تقول إن الحسن والحسين عليهما السلام لم يقبلا بعمر زوجا لاختيهما ، وزعمت أن الإمام علي عليه السلام هو الذي أمرهما بـهذا الزواج !! فعندما قال لهما زوجا عمر بن الخطاب قالا : " هي امرأة من النساء تختار لنفسها فقام علي وهو مغضب فامسك الحسن بثوبه (!!) وقال لا صبر على هجرانك يا أبتاه ". والرواية مع ضعفها فهي مخالفة للروايات الصحيحة السابقة ، والمهم أن عنصر المعارضة كان موجودا في هذا الزواج المزعوم .
وهناك رواية تقول أن عقيلا عمها لم يكن يقبل عمر بن الخطاب زوجا لها كذلك .
المعجم الكبير ج3ص44: " عن زيد بن أسلم عن أبيه قال ثم دعا عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب فساره ثم قام علي فجاء الصفة فوجد العباس وعقيلا والحسين فشاورهم في تزويج أم كلثوم عمر فغضب عقيل وقال : يا علي ما تزيدك الأيام والشهور والسنون إلا العمى في التابعين والله لئن فعلت ليكونن وليكونن لأشياء عددها ومضى يجر ثوبه ".
فمع كل هذه الروايات التي تسرد لنا موقف الإمام علي عليه السلام من شخصية عمر بن الخطاب كيف يستدل بهذا الزواج المزعوم على محبة الأمير عليه السلام لعمر بن الخطاب ؟! هذا عجيب !
والخلاصة أن هذا البحث لا طائل منه لأن هذا الزواج المزعوم لو تم واقعا لما دل على شيء مما يطمح الوهابية إليه من حسن العلاقة بين الإمام علي عليه السلام وابن الخطاب ، ولو تم الزواج لانقلب الدليل ضدهم إذ تثبت لنا الروايات شدة كره الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لشخص عمر بن الخطاب وأن الأخير لا يألوا جهدا في ابتكار أي أسلوب لتحقيق مراده حتى ولو بقطع اليد وهدم وطمس كل مكرمة لأهل البيت عليهم السلام .
وما هذا الظلم الذي وقع على الإمام علي عليه السلام والسيدة أم كلثوم بأعظم من الظلم الذي وقع على الإسلام والدين عندما شتم عمر بن الخطاب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في أخريات حياته واتـهمه في عقله عندما قال إن الرجل ليهجر وغلبه الوجع ، ثم تصدى لأمر ليس له ونصب نفسه بدلا عن الإمام الحق حتى ضلت الأمة إلى يومنا هذا إلا ما رحم الله (( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين )).
والحمد لله رب العالمين
المصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق